سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» رواه مسلم. فعدَّ صلى الله عليه وسلم الإيمان باليوم الآخر ركنا من أركان الإيمان. وليس المقصود بالإيمان باليوم الآخر هو مجرد الإيمان بالبعث فقط، بل إن الإيمان باليوم الآخر أوسع من ذلك، فهو يشمل الموت الذي يكون بخروج الروح، ويشمل سؤال القبر وما يكون فيه من نعيم أو عذاب، ثم ما يكون من بعث الأجساد يوم القيامة، وما يكون في عرصات القيامة، إلى أن يصير أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، كل ذلك من الإيمان باليوم الآخر.
فأول مراحل يوم القيامة الموت، ومن مات قامت قيامته كما روي ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والموت يكون بخروج الروح من الجسد، ومن عقيدتنا أن ثمة ملك موكل بقبض الأرواح يسمى ملك الموت، قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]، وفي آية أخرى قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، وفي آيات أخرى أخبر تعالى أن الملائكة هي التي تتوفى الأنفس أيضًا فقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32]، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28]، ويجمع بين هذه الآيات كلها بأن الأمر بقبض روح فلان يكون أولًا من الله تعالى، ثم يتولى ملك الموت قبض الروح بنزعها من جسد الإنسان، وإذا ما استلها ملك الموت أخذتها الملائكة منه فيجعلونها في حنوطها.
وقد دلَّ ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحة الجمع بين تلك الآيات، فقد روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان». قال: «فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فَي السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض...». فهذا الحديث يبين أن الذي يباشر نزع الروح هو ملك الموت، ثم تأخذها الملائكة من يده ويجعلونها في الكف والحنوط الذي معهم.
وهذه الروح بعد أن تأخذها الملائكة تصعد بها إلى السماء، فإن كان صاحبها مؤمنًا تُقبلت في السماء بقول حسن ثم أعيدت إلى القبر تتنعم فيه إلى يوم القيامة، وإن كان صاحبها غير مؤمن؛ أغلقت دونها أبواب السماء، ثم أعيدت إلى قبرها تتعذب فيه إلى أن يشاء الله تعالى. جاء بيان ذلك كله في حديث البراء بن عازب الذي سبقت الإشارة إليه، وهو حديث طويل وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «فيصعدون بها، فلا يمرون، يعني بها، على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى». قال: «فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة». رواه أحمد.
وأما روح الكافر فقد قال صلى الله عليه وسلم عن الملائكة التي تأخذ روحه من ملك الموت: «فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] فيقول الله عز وجل: «اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا». ثم قرأ: {ومن يشرك بالله، فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} [الحج: 31]، «فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه...،». رواه أحمد.
فهذا الحديث يبين لنا أن الروح بعد أن تخرج من الجسد تعود إلى قبر صاحبها، فإما أن تتعذب، وإما أن تتنعم، هذه عقيدتنا في الروح التي أخذناها عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم يوم القيامة تنفخ الأرواح في الأجساد وتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
وأما ما يعتقده بعض الناس من أن الأرواح تبقى تسكن بعض الأماكن المهجورة، أو الأماكن التي قتل فيها إنسان ظلمًا، أو مات فيها رجل صالح، أو نحو من الاعتقادات، فهذا كله غير صحيح، وهو من الخرافات التي اعتقدها الناس بسبب جهلهم بدينهم، وتسربت إليهم من معتقدات أخرى، وكلها تخالف ما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الروح. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة» رواه البخاري. والهامة هي أن أهل الجاهلية كانوا يزعمون أن القتيل ظلمًا إن لم يؤخذ بثأره صارت روحه هامة في قبره، أي طائرًا تقول: اسقوني اسقوني، فإذا أخذ بثأره طارت، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الاعتقاد باطل غير صحيح، وأن روح الإنسان تبقى في قبره إلى أن تقوم الساعة.