اليقين أرقى درجات الإيمان بالله تعالى، وأخص صفات أهل التقوى والإحسان، قال تعالى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3]، وقد عدَّه ابن القيم من منازل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وقال عنه: "وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وعمل القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه، وإذا جُمِع الصبر مع اليقين تحصل منهما الإمامة في الدين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. وذكر ابن القيم من تعريفات اليقين أنه: "ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين، فلا يبقى معك شك ولا ريب أصلا، وهذا نهاية الإيمان، وهو مقام الإحسان".
وإذا كان اليقين من درجات الإيمان بل هو أعلاها؛ فلا شك أنه يعتريه ما يعتري الإيمان من قوة وضعف، وزيادة ونقص، ولذا لا بد للمسلم أن يعرف ما يقوي يقينه بالله تعالى فيحرص عليه، وما يضعف يقينه بربه فيجتنبه. نذكر في هذا المقال أهم الوسائل والأسباب التي تقوي يقين المسلم بربه، مما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نقل لنا عن سلف هذه الأمة، وذلك كما يلي:
أولًا: العناية بكتاب الله تعالى تلاوة وتدبرًا وسماعًا: فالله تعالى عن كتابه الكريم: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، وقال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، ووصف الله تعالى عباده المتقين فقال: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وذكر سبحانه عن الدابة التي تخرج آخر الزمان فقال: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82]، فكل هذه الآيات وغيرها تدل على أن التدبر في آيات الله تعالى والعمل بما جاء فيها يورث اليقين في قلب المؤمن ويزيد إيمانه بالله تعالى.
ثانيًا: التفكر في مخلوقات الله تعالى: قال الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فالتدبر فيما بثه الله تعالى في السماء من نجوم وكواكب، وفي الأرض من بحار وجبال وغيرها؛ كل ذلك مما يقوي يقين المؤمن بالله تعالى ويثبته على الإيمان، فيوقن أن الذي خلق هذه المخلوقات كلها هو الإله الحق الذي يستحق العبادة وحده دون شريك معه. قال البقاعي معقبًا على هذه الآية: "فكأنه يقول لعباده المتقين: تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة أبيكم إبراهيم، كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ".
ثالثًا: النظر في سيرته صلى الله عليه وسلم: في سيرته صلى الله عليه وسلم كثير من المواقف والأحاديث التي تدل على عظيم يقينه صلى الله عليه وسلم بربه، مما ينبغي للمسلم أن يتأملها ويحفظها أيضًا، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: «أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، -ثلاثا- ولم يعاقبه وجلس». وعلم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس اليقين بقوله له: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الترمذي.
رابعًا: دعاء الله تعالى أن يرزقه اليقين ويقيه الذنوب والمعاصي: وقد كان ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم، فقد صحَّ أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا...» رواه الترمذي.
رابعًا: النظر في سير الصالحين العارفين بالله تعالى: وإن مما يورث اليقين في القلب ويقويه أن ينظر المسلم في سير الصالحين من سلف هذه الأمة وخلفها ممن شُهد لهم بالصلاح وماتوا على ذلك، ينظر المسلم كيف كانوا في إيمانهم بالله تعالى على يقين، لا تزعزعهم المصائب والبلايا، ولا تفتنهم السرائر والعطايا أيضًا.
ومما ينبغي فهمه مع النظر في تقوية اليقين العلم بأنه لا يلزم من زيادة اليقين أن توجد للمرء كرامات من خوارق العادات، ولا أن يترك معه الأخذ بأسباب الرزق، فكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لهم كرامات وكانوا من أئمة الموقنين بالله تعالى، وكان الأنبياء عليهم السلام والصحب الكرام يتكسبون بأيديهم، وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»، وقد تاجر الصحابة الكرام وزرعوا، وامتهنوا المهن، وكذلك كان خيار السلف بعدهم، لم يحملهم اليقين على الجلوس في المساجد والبيوت وانتظار الرزق، بل سعوا إليه وأخذوا بأسبابه.