لم يخلق الله تعالى الجن والإنس إلا لعبادته، قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. والعبادة كما عرفها ابن تيمية: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"، وذلك يعني أن كثيرًا من الأمور التي يأتي بها المرء هي عبادة لله تعالى، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وبر الوالدين، والإحسان إلى الخلق، وغير ذلك كثير، وأعلى درجات العبادة وأجلها توحيدُ الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ومن توحيده سبحانه وتعالى: دعاؤه والتضرع إليه، والذبح والنذر له وحده، والاستعانة والاستغاثة به، ومنه أيضًا: حسن التوكل عليه جل وعلا.
أمر الله تعالى عباده في كتابه بالتوكل عليه، وأثنى على من توكل عليه، وجعل التوكل صفة من صفات أنبيائه وأصفيائه، ووعد الأجر والكفاية على من توكل عليه، وذلك في غير ما آية، فمن ذلك قوله تعالى آمرًا عباده بالتوكل عليه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، ومنه قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، وقال له أيضًا: {فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقال عن أنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12]، وقال عن أوليائه: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، وقال عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقال تعالى عمن توكل عليه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الحض على التوكل وبيان فضله، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا» رواه الترمذي وأحمد. قال ابن رجب: "وهذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق". وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم أن يقول: «اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك» رواه ابن شيبة. وقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم» رواه ابن ماجه.
قال ابن رجب في تعريف التوكل: "هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكِلَةُ الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه". وقال ابن القيم: "قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. ومعنى ذلك أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات".
وإذا كان التوكل من أعمال القلب وأنه صدق اعتماده على الله تعالى؛ فهذا يعني أنه لا منافاة بين التوكل والأخذ بالأسباب، ذلك أن التوكل خاص بالقلوب والأخذ بالأسباب خاص بالجوارح، فمن ركن إلى عمل القلب وحده فهو المتواكل المخطئ في فهم التوكل، ومن ركن إلى الأسباب وحدها واعتمد عليها فقد أخطأ أيضًا وأشرك بالله تعالى.
قال سهل بن عبد الله: "من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان". فالسنة دالة على أنه صلى الله عليه وسلم تحرك وعمل وأخذ بالأسباب ولم يجلس في بيته وينتظر النصر والرزق، ومثل ذلك من طعن في التوكل الذي هو عمل القلب فقد طعن في الآيات السابقة التي تدل عليه وتحض عليه. قال ابن القيم: "ومن هاهنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح، فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعًا منها، متصلًا بها".
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سعى أخذًا بالأسباب في كل أموره، فمن ذلك ما كان منه في يوم هجرته إلى المدينة، فقد أخذ معه أبو بكر الصديق يصحبه ويأنس به في سفره، ولـمَّا أحاط بهم المشركون وهما في الغار وقال أبو بكر ما قال؛ قال له صلى الله علهي وسلم: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» رواه مسلم. وفي سفره ذاك أخذ معه صلى الله عليه وسلم زادًا من طعام وشراب مع إيمان قلبه بأن الرازق هو الله تعالى، وقبل من أبي بكر الراحلتين التين هيأهما أبو بكر لسفرهما، وكل ذلك عمل منه صلى لله عليه وسلم بالأسباب، مع صدق اعتماد قلبه على الله تعالى إذ لا منافاة بين عمل القلب وعمل الجوارح كما ذكر.
وهكذا ينبغي للمسلم أن يأتي بعبادة التوكل، يجمع فيها بين صدق اعتماده بقلبه على الله تعالى، وبين الأخذ بالأسباب بالسعي طلبًا للرزق وغيره، لا يعتمد في قلبه إلا على الله تعالى. قال ابن تيمية فيمن تعلق بقلبه على غير الله تعالى: "وما رجا أحدٌ مخلوقاً ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك، قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]".