من أهم المشكلات التي تواجهها الحياة الاجتماعية قديما وحديثا هي مشكلة العنصرية التي تعني التفرقة بين البشر بحسب أصولهم العرقية، وألوانهم، وقبائلهم، ومن ثم تنشأ العصبية التي تحامي عن كل ذلك، وقد كان لهذا السلوك أثر واضح في إثارة الفتن عبر التاريخ، وإشعال نار الحروب.
فكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في حياة البشرية حيث عملت الرسالة على إزالة تلك الفوارق العنصرية، وكانت المساواة أهم المبادئ التي ترسخت مع إشراقة صبح الإسلام، وصُبغ المجتمع بصبغة الدين ومعاني الإيمان، وروابط الأخوة، وبُثَّت روح التعايش والسلم الاجتماعي بين كل الأعراق، وصار العربي إلى جانب الفارسي والرومي يمارسون أعمال الإسلام بروح واحدة، فضلا عن الفوارق التي كانت بين القبائل العربية نفسها فقد قضى على كل الشعارات الجاهلية، والدعوات العنصرية.
لقد كان من مبادئ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مكاشفة قريش التي تغلغلت فيهم العصبية بأنه مبعوث عالمي، لا تؤطره القبيلة، ولا تحده العرقية، لقد أخبرهم بطبيعة الرسالة التي جاء بها، وأنها تتجاوز الأعراق، واللغات، والألوان، فهي فوق الفوارق الطبقية، والحدود الجغرافية.
ففي مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخرا: بعثت إلى الناس كافة، الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا».
لقد وصف لهم تلك الحالة التي كانوا عليها بما تنفر منه نفوسهم، فهي دعوات جاهلية، قامت على أساس الجهل بحقيقة الخلق، ومبادئ النشأة الأولى، ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أذهب الله عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرها بالآباء، إِنَّمَا هُوَ مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب».
لقد أبدلتهم الرسالة بمسميات قائمة على معاني الإيمان والعمل، بدلا عن تلك الألقاب التي كانت تثير فيهم الحمية والعصبية، ولم يلغ تلك الانتماءات القبلية والأحلاف العشائرية، وإنما هذبها برابطة الإيمان والانتماء للإسلام.
ففي سنن أبي داود عن أبي عقبة، وكان مولى من أهل فارس، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فضربت رجلا من المشركين، فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «فهلا قلت خذها مني، وأنا الغلام الأنصاري».
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في أهله، مثراة في ماله، منسأة في أثره».
فالعلم بالأنساب ليس للتفاخر والتطاول على الناس، بل ليصل المسلم أرحامه ممن تجمعه بهم رابطة النسب والقرابة.
وكان عليه الصلاة والسلام يحذرهم بأن الرجوع إلى دعوات الجاهلية مفارقة لجماعة المسلمين، ونكث للعهد الذي تضمنته كلمة التوحيد، فكان يردد على مسامعهم: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» كما في سنن أبي داود عن جبير بن مطعم.
بل لم يكن يسمح باللفظة الواحدة وإن كانت عابرة ما دامت تشي ببقاء رواسب الجاهلية، وتذكر بعهدها المظلم البائد، ففي صحيح مسلم ، عن المعرور بن سويد، قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية»، قلت: يا رسول الله، من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم».
وفي قوله: «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية» يعلق ابن بطال في شرحه على البخاري بقوله: وهذا غاية فى ذم السب وتقبيحة؛ لأن أمور الجاهلية حرام منسوخة بالإسلام، فوجب على كل مسلم هجرانها واجتنباها
وقد استقامت تلك النفوس لتلك التعاليم الإسلامية، بعد مسيرة التصحيح والتهذيب، حتى كانوا على قلب رجل واحد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأعراقهم، وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع حتى آخر لحظات الدعوة.
ففي مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله وهو ينقل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق وفيها: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبلغت».
لقد كان هذا الإعلان الحقوقي الشهير يتنزل على نفوس الحاضرين وهم يرسمون لوحة الاجتماع والوحدة الإسلامية بأبهى صورها، القبائل العربية، والوفود القادمة من غير بلاد العرب، لقد كان هذا الخطاب وقريش حاضرة بكل بطونها وعشائرها، ونفوسهم مسلِّمة لهذا الخطاب الإسلامي الذي أنقذهم من الحروب، وطوى صفحة بائسة من الصراعات التي كانت تدوم لعقود بسبب أن خيلا تعثرت في سباق مع خيل لقبيلة أخرى، لقد عملت فيهم تعاليم الإسلام عملها طوال فترة الدعوة، فذابت في نفوسهم كل معاني الجاهلية، ودعوات العصبية، حتى ختمت تلك المسيرة المباركة في حجة الوداع بهذا الميثاق الإنساني الذي لم يشهد العالم أرقى ولا أعدل ولا أصدق منه.