وردت في السنة النبوية مجموعة من التوجيهات التي يمكن أن نطلق عليها الثقافة البيئية في التعاليم النبوية، وليس مستغربا أن نجد هذا الاهتمام بالبيئة في النص النبوي، فالشريعة المطهرة جاءت لاستصلاح الإنسان ومحيطه وبيئته التي سخرها الله له، وقد كان من مقتضيات هذا التسخير استثمار الكون بما أودع الله فيه من الموارد والطاقات، ومن لوازم ذلك المحافظة على تلك المسخرات، والتعامل معها وفق منهج رشيد يستمد قوته من التوجيهات النصية والقواعد العامة المتطابقة مع المصلحة الإنسانية.
والبيئة كما يعرفها البعض هي: الإطار الذي يحيا فيه الإنسان، وما يحيط به من الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية، من الماء والهواء والحيوان والنبات.
ولا شك أن هذا الموضوع من المشتركات الإنسانية، فكل الأمم والحضارات لديها ثقافة بيئية، وقوانين تنظم ذلك، ولكن المنطلقات الإسلامية للحفاظ على البيئة تختلف، ومفهوم الحفاظ على البيئة أوسع، فيتميز الإسلام بالبعد التعبدي الذي يتميز به المسلم في التعامل مع الكائنات والمسخرات من حوله، وكذلك بالربط بين الفساد البيئي وفساد سلوك الإنسان مع ربه.
فنجد التوجيهات النبوية المتعلقة بالتعامل مع الموارد المائية، بعدم تلويثها بالنجاسات أو بما تستقذره النفس ولو لم يكن نجسا، وجاء التوجيه بعد إهداره والإسراف فيه، والحث على ترشيد استعماله في حال الوفرة فضلا عن حال شح تلك الموارد.
ففي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد، وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف» فقال: أفي الوضوء إسراف، قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة، قال: «يتناوله تناولا».
وجاء النهي عن تقذير الماء المعد للشرب، حتى لا يهدر الماء، ويفوت به حق الآخرين، كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، أن يُشرب من أفواهها».
وأيضا ورد الأمر بتغطية الأسقية التي يوضع فيها الماء تحسبا من تلويثه، ففي صحيح مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وَغَلِّقُوا الأبواب، وَأَوْكُوا الأسقية، وَخَمِّرُوا الطعام والشراب - وأحسبه قال - ولو بعود تعرضه عليه»
وإذا نظرنا لعناصر البيئة الأخرى وجدنا الحث على نظافة الطرق والاهتمام بها، والحث على تنظيف الأفنية، والمساجد، ويدخل في ذلك جميع المرافق العامة التي يعود نفعها على كل أفراد المجتمع.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا المَلاعِنَ الثلاث» قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: «أن يقعد أحدكم في ظل يستظل فيه، أو في طريق، أو في نَقْعِ مَاءٍ»
وكما أن الاهتمام بالطرق عنوان حضارة، فهو الإسلام تعبد وقربة يتوصل به المسلم إلى نيل المغفرة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس».
وهذا تحفيز للمؤمن للمبادرة إلى كل ما من شأنه إصلاح الطرق، وتهيئتها للسالكين، فيدخل فيها تعبيدها، ورصفها، وصيانتها، وتنظيم السير عليها، والمحافظة على مرافقها، والتزام قوانين السير فيها، فهذا كله من إزالة الأذى عن الطريق.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل من الوصايا النافعة التي أرشد إليها من جاء يسأل عن عمل ينتفع به، ففي صحيح مسلم عن أبي برزة الأسلمي، قال: قلت: يا نبي الله علمني شيئا أنتفع به، قال: «اعزل الأذى عن طريق المسلمين»
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».
وفي مجال النبات والتشجير مجموعة من التعاليم التي تحث على الزرع والتشجير ولو لاحت بوادر القيامة، ومن ثم الحفاظ على الأشجار من العبث، والإخبار بالأجر المترتب على ذلك. ففي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسِيلَة فليغرسها»
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، قال: كان لِرِجَالٍ فُضُولُ أَرَضِينَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له فضل أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه».
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء، أن رجلا مرَّ به وهو يغرس غرسا بدمشق فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا تعجل علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي، ولا خلق من خلق الله عز وجل إلا كان له صدقة».
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم على جريمة الاعتداء على حدود الأرض، وانتهاك الحقوق العامة أو الخاصة المتعلقة بالأرض، وهذا مندرج في الحفاظ على البيئة، ففي صحيح مسلم عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن الله من غيَّرَ منارَ الأرض». قال ابن الأثير في النهاية: المنار جمع منارة، وهي العلامة تجعل بين الحدَّين. انتهى.
واقتران اللعن بهذا الفعل يجعله كبيرة من كبائر الذنوب. كما ذكره ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام.
ومما يندرج ضمن التعاليم البيئية الرحمة بالحيوان ودواب الأرض، فالمسلم منضبط في تعامله مع محيطه من المخلوقات، فهو راحم لها، متعايش معها بشعور التكامل بين مسخرات هذا الكون.
ففي المعجم الكبير للطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رحم، ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة».
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «غُفِرَ لامرأة مُومِسَةٍ، مرت بكلب على رأس رَكِيٍّ يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خُفَّهَا، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك».
وفي سنن أبي داود عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرَةً معها فرخان فأخذنا فَرْخَيْهَا، فجاءت الْحُمَّرَةُ فجعلت تُفَرِّشُ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها». ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: «من حرَّق هذه؟» قلنا: نحن. قال: «إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنار إلا رَبُّ النار». والتوجيهات النبوية في هذا كثيرة، والإنسان بفطرته مجبول على الرحمة بهذه المخلوقات.
ومن التوجيهات النبوية في الحفاظ على البيئة الأمر بالنظافة، ولا سيما في البيوت ومرافقها، ففي سنن الترمذي عن سعيد بن المسيب، قال: «إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا - أراه قال - أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود». قال خالد ابن إلياس: فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار، فقال: حدثنيه عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: «نظفوا أفنيتكم».
ومن ذلك الأمر أيضا بالمحافظة على المساجد بالتنظيف والتطييب، ففي مسند الإمام أحمد عن عائشة، قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تُنظَّف وتُطيب».
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن ابن سيرين، قال: لما قدم الأشعري البصرة، قال لهم: «إن أمير المؤمنين بعثني إليكم لأعلمكم سُنَّتَكُمْ، وَإِنْظَافَكُمْ طُرُقَكُمْ».
ويدخل في ذلك الحفاظ على كل المرافق العامة، من المدارس، والجامعات، والحدائق، والمؤسسات الحكومية بأنواعها، فهي مصالح عامة، وقد شيدت لمصلحة أفراد المجتمع، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فكما أن المسلم مأمور بنظافة بيته، وبإماطة الأذى عن الطريق، فإن الحفاظ على المرافق والمؤسسات العامة من باب أولى.
وبهذا يتبين مقدار الاهتمام النبوي بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان، وهو امتداد لما قرره القرآن الكريم من الإخبار بتسخير الكون، والتوجيه بالسير في الأرض، وإعمارها، والتعامل مع مكوناتها بإيجابية فاعلة تعود بالخير على الفرد والمجتمع في العاجل والآجل، ويتكون من تلك التوجيهات القرآنية والنبوية منظومة متكاملة من الأخلاقيات الحسنة في التعامل مع عناصر البيئة ومكوناتها.