الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

آثار الغلو ومعايبه

آثار الغلو ومعايبه

آثار الغلو ومعايبه


الغلو أو التطرف الديني أو التشدد أو التعصب مصطلحات متداولة في النقاش الفكري المعاصر، وقد تستعمل في سياقها الصحيح، كما أنها قد تكون تهمة يرمى بها دون حقيقة أو برهان، وإذا أخذنا في الحسبان أن مفهوم التطرف والتشدد نسبي بحسب البيئة التي يعيشها الإنسان، وقربه وبعده عن التدين الحقيقي، فمن الناس من يعيش في بيئة محافظة وينشأ نشأة متدينة، ومن الناس من يكون في بيئة بعيدة عن ذلك، وهذا التفاوت له أثر في أحكام الناس ومفاهيمهم عن التطرف والغلو، فقد يرى البعض أن الالتزام بالحجاب الشرعي، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربا من التطرف والتشدد، والسبب أنه عاش بيئة بعيدة عن التدين وعن المفاهيم الصحيحة، وبالتالي فإن ترك هذه المصطلحات دون تحديد أو تقعيد يكون سببا للتفرق والتنازع.

مظاهر الغلو:

سنذكر ثلاثة من المظاهر والأحوال التي تكون علامة على التطرف والغلو، ومن خلالها نصل إلى تحديد مفهوم التطرف والتشدد، ويستطيع القارئ معرفة ما يدخل في هذا المفهوم وما لا يدخل، وفي ذات الوقت يحذر المسلم من الوقوع في تلك المظاهر ويبتعد عنها.

الأول: التعصب لرأي أو مذهب أو شخص بحيث لا يعترف بأحقية الاختلاف معه بالرأي، واعتقاد أن من يخالفه في الفهم هم على باطل وضلال، ويجعل من هذه الأوصاف سوطا يلوح به في وجه كل من خالفه أو خالف مذهبه وطريقته، فهذا وصف يدل على التطرف والغلو.

الثاني: الأخذ بالأشد من الأقوال في سائر المسائل، والتشديد على الآخرين مع قيام أسباب التيسير، وجعل ذلك المسلك هو الدين الذي يجب الأخذ به، حتى ولو تسبب بالحرج والعنت على الناس، ويتصل بهذا المسلك سوء الظن بالمسلمين، وجعلهم تحت تهمة التساهل والتلاعب والفسق والانحلال وغيرها من التهم التي ينتجها التشدد والغلو.

الثالث: استباحة الكلام في الناس، ووصفهم بالكفر، والنفاق، ومن ثم استباحة الدماء والأموال والأعراض، كما وقع للخوارج الذين كفروا المسلمين بالمعصية، واستباحوا الحرمات، ويمارس هذا أيضا تلك الفرق التي انحرفت في مناهج الاستدلال، وفارقت الأمة في مسلماتها ومحكماتها، وهذا غاية ما يصل إليه التطرف والتعصب.

مشكلات الغلو:

الأول: مناقضة الطبيعة البشرية:

فالناس بطبيعة الخلقة البشرية لا يميلون إلى الغلو ونفوسهم تنفر منه، والشريعة إنما جاءت بما يوافق الفطرة البشرية السوية، فمن يمارس الغلو في الدين ويدعو إليه يظنه من الإسلام فهو يبغض الناس في الدين وينفرهم منه؛ لأنه يناقض طبيعتهم، ويكلفهم فوق طاقتهم، كما قال عمر ابن الخطاب وهو يتحدث عن الإطالة في الصلاة بالناس: لا تبغضوا الله إلى عباده، فيكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه. رواه البيهقي في الشعب وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح.

ولما كان الغلو يناقض الطبائع والفطر السليمة فإنه لا يطول عمره، ولا يمكن الاستمرار عليه، بل تمله النفس، كما أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" وربما ينتقل صاحبه إلى التفريط وإضاعة الحق، "كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"، والمنبت: الذي انقطع عن رفقته وقد أجهد ركوبه. وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الغالي في دينه الذي آل حاله إلى التفريط والانقطاع، والحديث رواه البيهقي والبزار وغيرهما بلفط: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى".

الثاني: تضييع الحقوق

كل غلو يحصل فإنه يكون على حساب حقوق واجبة، ولذلك قال أحد الحكماء: ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حق مضيع، ويظهر هذا من الوصية الجامعة لعبد الله بن عمرو الذي أخذ العبادة بحماس وشطط، فقال له عليه الصلاة والسلام: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا".

وهكذا قد يتحمس بعض المسلمين لبعض فروض الكفاية كالدعوة والعمل الإنساني وغيره، فإذا خرج عن حد الاعتدال طغى ذلك على حقوق أهله وتربية أولاده وصلة أرحامه، والإسلام يدعو للاعتدال والتوسط حتى ولو كان في الخير.

الثالث: التفرق والاختلاف

فالغلو من شؤمه أنه يشق صفوف المؤمنين، ويورث الفرقة والاختلاف، وتنشأ عنه ثقافة التصنيف والتحزيب بين الناس، فيلقون بالألقاب والمصطلحات التي تفرق الجمع، وتكرس الخلاف والنزاع، من خلال إسقاط المرجعيات الجامعة، والأصول المحكمة، فيفتون في عضد الأخوة الإسلامية، ويهدمون مبدأ التعاون على الخير، ويستأثرون على الأمة بألقاب الإيمان والإسلام، فلا يزيدون الشأن إلا ضعفا،

أسباب الغلو:

منها أسباب علمية تتعلق بضعف البصيرة بحقيقة الدين، فالغلو في الغالب لا يأتي من الجهل المطلق بالدين، وإنما يأتي ممن له بعض العلم لكنهم يجهلون حقيقة الدين، ويتجاوزون مسلمات السنن، ووقائع التاريخ، وهذا الحال في الغالب ينتج كثيرا من الكوارث كالابتداع، والغلو والتطرف، لأنه ليس جهلا بالعلم، ولكنه جهل بالجهل، وهو ما يسمى بالجهل المركب، فيأخذ البعض بظواهر نصوص تعتبر من المتشابه لذي يحتاج إلى رسوخ في العلم للتعامل معها، أو يحملون الناس على العزائم في محل الرخصة، أو يحملون العامة على كمالات الأبرار وفضائل الخواص، أو يوجهون العموم إلى مسائل فرعية مع إهمال القضايا الكبرى، فكل هذا من صور الغلو، وأما من رزقه الله البصيرة بحقيقة الدين ومقاصده، وفهم كلياته وجزئياته، فهو من أبعد الناس عن الغلو.

ومنها أسباب منهجية تتعلق بعدم الجمع بين الأدلة، واتباع المتشابه من النصوص، والتعامل المباشر مع النصوص وعدم الاعتناء بفقه الأئمة المتبوعين، بالإضافة إلى إشكالات تتعلق بالخلط بين مراتب الأحكام، وإشكالات تتعلق بتنزيل النصوص على الوقائع، وغير ذلك من الأخطاء المنهجية التي أنتجت فكر الغلو والتطرف.

ومنها أسباب تتعلق بالواقع: مما يتعرض له العالم الإسلامي من حرب معلنة على أوطانه ومقدساته، دون أن يرى المسلم سبيلا لنصرة إخوانه المستضعفين، علاوة على ما تصنعه قوى الحرب العالمية من إشعال فتيل الفتنة بين المسلمين وتسليط بعضهم على بعض، حتى فرقوهم شيعا وأحزابا وأعراقا، إضافة إلى فرض الحصار على الإسلام ودعاته المعتدلين، وتجفيف منابع العلم والمعرفة الحقيقية، وسمحوا بمساحة لأصوات تزور الإسلام بما يعزز شرعيتهم ويتعايش مع مشاريعهم فأوجدوا البيئة التي تتقبل أفكار الغلو ومشاريع التطرف، فهم صناعها ورعاتها.

وفي الحقيقة أن علاج هذه المشكلة تحتاج إلى منظومة من الجهود التكاملية العلمية والمنهجية والواقعية، وتخصص مجموعة من العلماء والمفكرين لدراسة الإشكالات وتقديم الأجوبة العلمية عليها، وإقامة الحوارات المباشرة مع من يحمل تلك الأفكار، وتصحيح المفاهيم للعموم، وإيجاد البيئة الإسلامية المناسبة التي تنشئ الأجيال وتحمي الشباب من خطر الغلو وخطر الانحرافات المقابلة من الإلحاد والانحرافات السلوكية والأخلاقية فهي لا تقل خطرا عن خطورة الغلو والتطرف في الأفكار والتصورات.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة