الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهجرة النبوية بين خُروج الحبيب من مكة وفرح المدينة باستقباله

الهجرة النبوية بين خُروج الحبيب من مكة وفرح المدينة باستقباله

  الهجرة النبوية بين خُروج الحبيب من مكة وفرح المدينة باستقباله

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل البرية، وسيد البشرية، إمام المتقين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، ومَن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)
أما بعد، أيها المسلمون:

حين أشرقت شمس الإسلام في مكة، لم يكن ذلك مجرد حدثٍ عابرٍ في تاريخ البشرية، بل كان ميلادَ أمةٍ جديدة، وهدايةً عظيمةً أرسلها الله عز وجل إلى الخلق أجمعين.. وبدأت كلمات الوحي تتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فتُحيي القلوب بعد موتها، وتُنير العقول بعدما طال عليها الأمد في ظلمات الجاهلية..
وحين رأى المشركون هذا النور ينتشر، وتلك الدعوة الصافية تدخل إلى القلوب والبيوت، أدركوا أن الأمر أعظم وأخطر عليهم مما كانوا يظنون، فاشتد إيذاؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وسعوا بكل حيلة إلى إطفاء نور الله، ولكن، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف:8).
وما إن بلغ قريشًا خبرُ البيعة المباركة ـ بيعة العقبة ـ التي تمت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب، تلك البيعة العظيمة التي حملت في طياتها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحمايته ونُصرته، حتى اشتعلت نفوسهم غيظًا، واضطربت قلوبهم خوفًا من انتشار الإسلام في الجزيرة العربية كلها، بل وخارجها إلى ما وراء رمال وجبال مكة..

فاجتمع كبراؤهم وسادتهم في دار الندوة، وعزموا على أن يتخذوا قراراً حاسماً للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم.. وتداولوا بينهم ثلاث خطط ومقترحات: الحبس، أو النفي، أو القتل للنبي صلى الله عليه وسلم، وتشاوروا وتنازعوا، ثم استقروا على قرارٍ آثم، نادت به شياطينهم: أن يُقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيضيع دمه بين القبائل، ويعجز بنو هاشم عن الأخذ بثأره، وغفلوا ولم يعلموا أن الله عز وجل الذي أرسل هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، قد تكفّل بحفظه ونصره، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67)، وقال سبحانه مبيِّنًا خبث نياتهم، وعظيم مكرهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(الأنفال:30)..

لقد شاء الله أن يُظهر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة، فظل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، حتى أحاط المشركون به، ثم أذِن الله له بالخروج، ودبَّر ويسَّر له أسباب النجاة، فخرج من بين أيديهم، وقد أخذ الله أبصارهم، فلم يروه وهو يمرّ من أمامهم..
وقد ذكر العلماء قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته ومُجْمَل ما قالوه: "وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش، فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأمره أن يبيت على فراشه، وَيَتَغطى بِبُرْدٍ له أخضر ففعل، ثم خرج رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم، وأخذ الله عز وجل بأبصارهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}(يس:2:1)، إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}(يس:9).. ومضى رسول الله إلى بيت أبي بكر، فخرجا من باب صغير في دار أبي بكر.. وجاء رجل ورأى القوم يقفون عند الباب، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: مُحمداً، قال: خبتم وخسرتم، قد والله مرَّ بكم، وذرَّ على رؤوسكم التراب، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم..
انطلق النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصدِّيق في رحلة الهجرة المباركة، يخطّان أول سطورٍ في تاريخ أمة الإسلام، وقد واجها في الطريق ما واجها من المواقف والأخطار، لكنّ الله كان معهما بحفظه ونصره، كما قال سبحانه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}(التوبة: 40)، حتى وصلا إلى المدينة المنورة..

وفي لحظة فارقة في تاريخ البشرية، استقبلت المدينة المنورة نبيَّ الرحمة صلى الله عليه وسلم مهاجراً مِنْ مكة، حاملاً لهم الإسلام والتوحيد، وبذور أمة سيتغير وجْهُ ومَجْرى التاريخ بها، ولذلك كان ذلك اليوم ليس كغيره مِنَ الأيام، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخَلق رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لقد كان أهل يثرب على موعد مع النور والهداية والسعادة، فإنهم لا يستقبلون مهاجرا عاديا، بل يستقبلون خير البشر صلى الله عليه وسلم، وقد استشعر أهل المدينة هذا الفضل الذي أعطاهم الله إياه، والشرف الذي اختصهم به، إذ ستصبح بلدتهم موطنا لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين، ونصرة الإسلام، ولذلك خرجوا رجالا ونساء، وشيوخا وأطفالا، لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم بفرحٍ غامر، وقلوبٍ متشوِّقة، يترقبون بشوق وفرح طلعة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم..
حتى رأوه وأشرق عليهم بوجهه الوضّاء، وأنواره الفيّاضة، واستنارت المدينة بما فيها وما حولها بطلوع البدر الحقيقي عليهم، حتى صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرَّق الغلمان في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله، يا رسول الله، وعلت أصواتهم بالتهليل، وفرحت الأرض ومَنْ عليها، وأنشدوا تعبيرا عن فرحهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم:
طلع البدر علينا مِنْ ثَنِّيَات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

يصف أنس بن مالك رضي الله عنه مشاعر المسلمين في يوم قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا ودخوله إلى المدينة المنورة ـ وكان حينَها صَغيرًا ـ فيقول: (ما رأيتُ يومًا قطُّ كان أحسَنَ ولا أضوَأ مِن يومٍ دخَلَ علينا فيه رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد.
ويَصِفُ البَراء بن عازب رضي الله عنه وهو شاهد عيان لهذه اللحظة فرَحَ الأنْصارِ بقُدومِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فيقول: (قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُ أهْلَ المدينة فرِحوا بشَيءٍ فَرَحَهم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
ويجمع ابن القيم مشهد المدينة المنورة حين وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها فيقول: "وسُمِعَتِ الرَّجَّةُ والتَّكْبِيرُ في بني عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوْه وحيَّوْه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسَّكينة تغشاه، والوحي ينزِل عليه، قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}(التحريم:4)"..فهل استشعرنا -عباد الله- هذا الحدث الجليل؟ ومكانة الهجرة النبوية في بناء الإسلام؟ ومدى فرح أهل المدينة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

الحمد لله أكرمنا بالإسلام، وهدانا بنور القرآن، وأرسل إلينا خير الأنام، محمدًا عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنير دروبنا وتثبّت قلوبنا، وأشهد أن مُحمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد: عباد الله:

لم تكن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة مجرد انتقال جغرافي مِنْ مكانٍ الى مكان، أو حدثًا عاديا يُروى، أو قصة تُحكى، بل هي نقطة فاصلة في مسار البشرية، وإعلاناً عن ولادة أُمَّة جديدة هي خير الأمم، تنبض بالإيمان، وتتجه الى إقامة دولة ومجتمع قائم على قِيَم الأخوة والحب، والعدل والرحمة..
لقد كانت يثرب ـ وهو اسم المدينة المنورة قبل الهجرة النبوية ـ مدينة ممزقة، ينهشها الخلاف، ويطغى عليها الجهل، وتتفشى فيها الأمراض والأحقاد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يُبدل حالها، ويحوّلها إلى مدينة من نور، فصارت طَيْبةَ الطيِّبةَ، والمدينة المنورة، ملتقى المهاجرين والأنصار، دار الهجرة والعزة، ومنطلق الفتح والنصر، ومِن ثم كان يوم وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة يوماً مشهوداً، فاستنارت وأضاءت وأنشدت بلسان المقال والحال: طلع البدر علينا..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا مُحمد..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة