الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى..
أما بعد أيها المسلمون:
أظلمت المدينة المنورة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واهتزت لموته القلوب، وتصدعت له الأرواح! كيف لا، وقد مات أفضل خلق الله أجمعين، ومَن أرسله الله رحمة للعالمين، وخاتمًا للنبيين؟!..
مات مَنْ بكى خوفًا على أمته، وقضى عمره داعياً إلى ربه، حتى فارق الدنيا وشفَتاه تتحركان وهو يقول (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) رواه ابن حبان.
فياله من ألم، ويا له من فقدٍ، لم تعرف القلوب له مثيلاً.. يوم طُويت صفحة الوحي، وانقطعت النبوات، وغاب وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم عن عيون أصحابه، وهذا اليوم لم يُرَ في تاريخ الإسلام مثله..
وقد تحدثنا في خطبتنا الماضية عن شدة مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سكرات الموت التي عانى منها رغم مكانته العالية، ليضاعَف له الأجر يوم القيامة، وفي ذلك سلوى لكل مريض، وعزاء لكل مبتلى، فصبرٌ جميل، وأجرٌ جزيل، وما عند الله خيرٌ وأبقى..
واليوم نقف مع بعض وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، تلك الوصايا التي خصنا بها في هذا المقام وأكد عليها لتبقى لنا معالم من النور نهتدي بها في ظلمات الحياة.
معاشر المؤمنين: أول هذه الوصايا النبوية الحرص على التوحيد: "لا إله إلا الله" كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وبراءة من الشرك، ونجاة من النار، وما خُلِق الجن والإنس إلا للقيام به حق القيام، وهو المفتاح الذي تُفتح به أبواب الجنة.. ومعناه: الإيمان بوحدانية الله عز وجل في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، لا شريكَ له في مُلكه وتدبيره، وأنّه هو المستحقّ للعبادة وحده، وأنه سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11)..
والتوحيد هو أول وأعظم واجب على العباد، وهو أوَّل ما ندعو الناس إليه، وهو أعظم المأمورات التي أمر الله بها، والشرك بالله هو أعظم المنهيات التي نهى الله عنها..
والتوحيد هو أول ما يُسأل عنه العبد في قبره، جعله الله شرطا في دخول الجنة، ومانعا من الخلود في النار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (يا مُعاذ، أتَدْرِي ما حَقُّ اللَّه على العِباد؟ قال: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلم، قال: أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئا، أتَدْرِي ما حَقُّهُمْ عليه؟ قال: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلم، قال: أنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) رواه البخاري.
والنبي صلى الله عليه وسلم حِمايةً للتوحيد حذر أصحابه وأمته من بعدهم من الشرك تحذيرا شديدا، ونهاهم عن كل ما يوصل إليه، ويؤدي للوقوع فيه، من وسائل وأسباب قولية أو فعلية، ولم يترك ـ طوال حياته ـ بابًا من الأبواب التي تُوصِل إليه إلا أغلقه..
ومِنْ شواهد تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لشأن التوحيد وحمايته له: تحذيره ونهيه لأمته ـ وهو في مرضه الذي مات فيه ـ أن يصنعوا بقبره مثلما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم وصالحيهم، لما في ذلك من ذَريعة مُوصِلة للشِّرك باللهِ، وحمايةً منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد..
فقد ورد عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في مرض موته: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مثل ما صنعوا) رواه البخاري. وسمع - وهو في مرض موته- من بعض نسائه عن كنيسة في أرض الحبشة وما فيها من حُسن وتصاوير، فَرَفَع رَأْسَه فقال: (أُولَئِك إذَا مَات منهم الرَّجُل الصَّالِح بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّروا فيه تِلك الصُّورَة، أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّه) رواه البخاري. وكأنه علم صلى الله عليه وسلم أنه مُرْتَحَل من ذلك المرض، فخاف أن يُعَظَّم قبره كما فعل مَنْ مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمِّ من يفعل فعلهم.
عباد الله: الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة، وهي عماد الدين، مَنْ حفظها حفظ الدين، ومَنْ ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي أول ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاته، فإن صَلُحَتْ فقد أَفْلَحَ وأَنْجَح، وإن فَسَدَتْ فقد خاب وخَسِر) رواه الطبراني. ولا يخفى على كل مسلمٍ مكانة ومنزلة الصلاة في الإسلام، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة"..
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها بقوله وفعله، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض..
ومع شدة ألم وتوجع النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، كان حريصاً على الصلاة، بل على صلاة الجماعة.. وكانت الصلاة آخر وصاياه التي أوصى بها أمته قبل موته. فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة، الصلاة). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: الصلاة) رواه أحمد.
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة، فإن الذي يؤلم ويحزن القلب، أنه لا يزال في عداد المنتسبين للإسلام من لا يصلي.. بعض المسلمين لا يذهب للمسجد للصلاة إلا في يوم الجمعة، والبعض لا يذهب للمسجد للصلاة إلا في شهر رمضان، والبعض الآخر لا يذهب للمسجد إلا مرة واحدة، لا ليُصلِّي، بل، ليُصّلَّى عليه وهو محمول على الأكتاف بعد موته ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ، مع أن آخر وصية من النبي صلى الله عليه وسلم لي ولك وللأمة كلها: (الصلاة، الصلاة)..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده..
أيها المسلمون:
من الدروس الهامة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إحسان الظن بالله عند الموت، فحُسن الظن بالله من الأمور الجليلة التي ينبغي أن يملأ المؤمن بها قلبه في جميع أحواله وحياته، في رزقه، في صلاح ذريته، في إجابة دعائه، في مغفرة ذنوبه، وفي كل شأن من شؤون حياته..
والأصل في المسلم أن يكون دائماً حسن الظنَّ بربه تعالى، وأكثر ما يتعيَّن على المسلم حُسن الظن بربِّه تعالى عند مرضه وحضور الموت، فيُغَلِّب جانب الرجاء في رحمة الله، على جانب الخوف مِنْ عذابه، وأن يتذكر عظيم كرمه سبحانه، وجميل عفوه، وواسع رحمته، ويستحضر ما وعد به أهل التوحيد، وما يدَّخِره لهم من الرحمة يوم القيامة..
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قَبْلَ وَفَاتِهِ بثَلَاثٍ يقولُ: لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ باللَّهِ الظَّنَّ) رواه مسلم.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "إذا رأيتم الرجل بالموت فبَشروه ليلقى ربَّه وهو حَسَن الظن به، وإذا كان حيًا- أي صحيحاً معافى- فخوفوه بربه عز وجل"..
وختاماً عباد الله، فإن في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلماته ووصاياه في مرض موته ولحظاته الأخيرة، ما يَفْتَح للقلوب أبواب الهداية، ويوقظ في النفوس معاني المحبة والاتباع، والمحافظة على الصلاة، وإحسان الظن بالله مع العمل، والصبر والرضا عند المرض والبلاء، والحرص على التوحيد، والحذر من الشرك بالله، والالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في حياتنا اليومية..
وصايا تنير لنا الطريق، ونستلهم منها الدروس والعبر، نحيا ونعمل بها من بعده، وتكون لنا ذخراً عند الله في الدنيا والآخرة، ونستضيء بها في واقعٍ اشتدّت ظلمته، وكثُرت فتنته..
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد..
فتاوى الحج
مقالات الحج
تسجيلات الحج
استشارات الحج






