الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من دروس غزوة حنين: "لنْ نُغْلَب اليوم مِنْ قِلَّة"

من دروس غزوة حنين: "لنْ نُغْلَب اليوم مِنْ قِلَّة"

من دروس غزوة حنين: "لنْ نُغْلَب اليوم مِنْ قِلَّة"

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين، فصاروا بنعمته إخوانًا، نحمده سبحانه ونشكره، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)..
أما بعد، معاشر المؤمنين:

كان العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أذلَّ الأمم، قبائل متفرقة، ومجتمعات ممزقة، يسكنون الصحراء، تتقاذفهم قوى الأرض الكبرى من الفرس والروم، حتى بعث الله فيهم نبيًّا من أنفسهم، فأخرجهم الله به من الشرك إلى التوحيد، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الذل إلى العزة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2).. وما هي إلا سنواتٌ معدودات، حتى قامت لهذه الأمة قائمةٌ عالية، وارتفعت رايتها خفّاقة في أرجاء المعمورة، وقاد رجالها الأمم، وبنَوا حضارة لا مثيل لها في صفحات التاريخ..
وليس ذلك بعجيب، فقد تربى أولئك الصحابة الكرام، الذين قادوا الأمة وبنَوا مجدها ـ من جملة ما تربوا عليه ـ: على أن النصر لا يُنال بالكثرة، ولا تُحقّقه القوة المجردة، بل هو من عند الله وحده، يُعطيه لمن حقّق شروطه وسننه الربانية، من صدق التوكل، وإخلاص النية، وطاعة لله، والسير على هدي ومنهج وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الإيمان واليقين التام أن النصر من عند الله، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(آل عمران:126)..

ومن أحداث السيرة النبوية التي أظهرت بوضوح أن العدد والعُدَّة ـ مع أهميتهما ـ لا يضمنان النصر مهما بلغا: غزوة حُنين، تلكم الغزوة التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وقد أُعجِب فيها بعض المسلمين بكثرتهم، وظنوا أن النصر مضمون بسببها، وقالوا: "لن نُغلب اليوم من قلة"، فكانت هذه الكلمة محطةً للتربية، ودرساً خالداً للصحابة وللأمة من بعدهم، حتى لا يغتروا بعددهم أو قوتهم، وينسوا المُعزّ المذلّ، القوي العزيز سبحانه وتعالى..
نقف اليوم مع هذا الدرس من غزوة حُنين، لا كمجرد حدث في السيرة النبوية والتاريخ، بل كواقع يُعاش، ودروس وعِبر تُستلهم..

عباد الله:
غزوة حُنين وما صاحبها مِن أحداث، أشار الله إليها في كتابه الكريم بقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(التوبة:26:25).
وقد وقعت أحداثها في شوال، سنة ثمانٍ للهجرة، بعد فتح مكة، حين بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن هوازن وثقيفاً ـ وهما قبيلتان كبيرتان ـ قد اجتمعتا بقيادة مالك بن عوف لمحاربة المسلمين بعد فتح مكة، وقد جمعوا جموعهم، وخرجوا بنسائهم وأموالهم لتحفيز جنودهم على القتال والثبات في المعركة..
فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في جيشٍ قوامه اثنا عشر ألفًا: عشرة آلاف ممن جاء معه لفتح مكة، وألفان مِنَ الطلقاء من مشركي مكة الذين عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وأسلموا..
وكانت المواجهة في ظلمة الليل الآخر، وقد كَمُنت هوازن في وادي حُنين ـ على بُعد سبعة وعشرين كيلومترًا من مكة ـ، فلما وصل المسلمون أسفل الوادي، باغتوهم بوابلٍ من السهام والرماح، فارتبك المسلمون، وانهزموا في أوّل الأمر، كما قال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}..
لكن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت على بغلته البيضاء، شامخًا في وسط الزحام، ينادي بأعلى صوته: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) رواه البخاري، ودعا أصحابه إلى الثبات والثقة بوعد الله، وثبت معه نحو مِائة من الصحابة الأخيار، ثم دعا ربه واستنصره، وأخذ قبضة من التراب، وقال: (شَاهَتِ الوُجُوهُ، فَما خَلَقَ اللَّهُ منهمْ إنْسَانًا إلَّا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بتِلْكَ القَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) رواه مسلم. فانقلبت الهزيمة إلى نصر، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وغنموا مغانم كثيرة هائلة..

ومع ما حققته غزوة حُنين من نصر عظيم وغنائم كثيرة على الصعيد الميداني والعسكري، إلا أن من أعظم ما انطوت عليه تلك الغزوة كان ما حملته من دروس وعبر، كما هي السيرة النبوية كلها: ميدانٌ للتربية، ومدرسة متجددة في بناء العقيدة والإيمان والأخلاق..
ومما نتعلمه من دروس هذه الغزوة: أن الغرور بالكثرة، والإعجاب بالقوة الظاهرة، من أسباب الخذلان، وموانع النصر..
ففي حُنين، لم يكن عدد المسلمين كأي معركةٍ سابقة، كانوا اثني عشر ألفًا، عددٌ لم يجتمع لهم من قبل، فنظر بعضهم ـ من حديثي العهد بالإسلام ـ إلى هذا الجيش الكبير وقالوا بلسان المُعْجَبين المغرورين: "لن نُغلب اليوم من قلة"، فماذا كانت النتيجة؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(التوبة:25).. نعم، لم تُغنِ الكثرة عنهم شيئًا، بل كانت بداية الانكسار، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت، وولّوا الأدبار..
ثم لما تطهّرت القلوب من الإعجاب، وارتفعت القلوب والأيدي والأبصار إلى الله عز وجل، أَنزل الله سكينته، وثبّت رسوله وأولياءه، فكان الانتصار..

ومن الملاحظات والمفارَقات بين غزوة بدر التي كان فيها أعظم انتصار للمسلمين وبين حنين التي انهزم فيها المسلمون في أول المعركة، أن المسلمين في بدر كانوا قلةً قليلة، لا تتجاوز ثلاثمائة، يواجهون جيشًا يفوقهم أضعافًا، ومع ذلك لم تضرهم القلة شيئا بسبب صدق إسلامهم، وقوة إيمانهم.. وفي حُنين، كانوا كثرةً لم يسبق لها مثيل، ومع ذلك هُزموا في أول المعركة، لأن الكثرة كانت موضع إعجاب، لا موضع شكر وتوكل، فلم تنفعهم الكثرة شيئا.
فإذا كانت غزوة بدر قد علّمتنا أن القلة لا تضرّ مع التقوى واليقين وإعداد العُدة على قدر ما نستطيع، فإن غزوة حنين تُعلّمنا أن الكثرة لا تنفع مع الإعجاب والاعتماد على العدد والعدة فحسب، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه سلم إلى ضرورة ردّ كل حول وقوة إلى الله، فكان يقول في كل معركة: (اللهم بك أَحول، وبك أُصول، وبك أُقاتل) رواه أبو داود.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد، عباد الله:

لقد كانت غزوة حُنَيْن درسا هاما من دروس السيرة النبوية، تعلم منه الصحابة ـ والمسلمون من بعدهم ـ أن النصر في ميزان الإسلام لا يُوزن بالأعداد، بل يُوزن بالتقوى وطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والصبر واليقين.. نعم، أمرنا الله عز وجل بالإعداد والاستعداد فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(الأنفال:60)، لكن هذا الإعداد سبب، وليس هو الفاصل وحده، فإن الكثرة لا تغني شيئا، ولا تجدي نفعاً في ساحات المعارك، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان، وأخذت بأسباب النصر وسننه، وأيقنت أن النصر من عند الله، فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها العدد والعُدَّة فقط، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد:7)، وقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}(الأنفال:17)..
وقد تعلم الصحابة هذا الدرس من غزوة حنين، واستفادوا منه بعد ذلك في حروبهم ضد أعدائهم، وهذا ما عَبَّرَ عنه عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في غزوة مُؤتة التي كانت المواجهة فيها بين ثلاثة آلاف مِنَ المسلمين، مقابل مائتي ألف مقاتل مِنْ نصارى العرب والعَجم، بقوله لأصحابه وللجنود: "يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة، ما نقاتل الناس بعدد ولا عُدة، ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور، وإما شهادة"..

وفي الختام -عباد الله-
تذكّروا أن النصر لا يأتي بالركون إلى القوة والعدد، ولا يُنال ونحن على معصية الله، ولكن يُرجى من الله بالتوكل عليه، والاستعانة به، وتحقيق طاعته، واتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، والثبات على الحق، والبعد عن مخالفة أمره، مع إعداد العدد والعُدة..
فكونوا متواضعين مهما على جاهكم، وكثُرت أموالكم، وقويت أبدانكم، فإن ما عند الله لا يُنال بالكبر والعُجب، ولكن بالخضوع والانكسار بين يديه، واحذروا الغرور، فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم..
واعلموا أن البركة والسعادة والتوفيق، في حياتكم ومعاشكم، وفي بيوتكم وأولادكم، وفي أعمالكم وأرزاقكم، لا تُستجلب إلا بطاعة الله ومراقبته، وتعظيم أمره واجتناب نهيه، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(الطلاق:3:2)..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة