لا تزال تطالعنا الصحف ويتداول في المجالس حالات أولئك الشباب الذين لا يفتؤون يسببون لأهلهم المتاعب والمشاكل مشوهين بذلك سمعتهم منكدين عليهم حياتهم، وكثيرا ما تلاحظ أن بعض الناس يبدأ في تحديد المشكلة محاولا إيجاد حل لتلافي عقوق هؤلاء الأبناء، إلا أنك تجد قصورا واضحا في فهمهم لطبيعة المشكلة، والتي تنبع غالبا من تفريط الأبوين في التربية وسلوك أساليب خاطئة في تنشئة الأولاد.
بداية يوضح الدكتور عمر بن سعود العيد "الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" أن النشء مسؤولية الآباء والأمهات، وأي مسؤولية يلقيها الإسلام فهي تعني الحساب عليها يوم القيامة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .. والأب راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته" ولكن لا إجابة يوم القيامة بالكلام، وإنما بما تقدمه تجاه هؤلاء النشء الذين هم في الحقيقة ثروات في ميزان حسنات الآباء إذا أحسنوا تربيتهم.
جوانب مختلفة!!
وإذا أدرك الآباء أهمية التربية وأثرها على الأولاد فإنه لا بد من العلم بأن التربية لا تقتصر على جانب واحد فقط ، فالتربية لها جوانبها المختلفة فهناك الجوانب الدينية، الخلقية، الجسمية، النفسية والاجتماعية، ومن الخطأ -كما يقول الدكتور عبد الرحمن العايد "عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بالرياض"- عدم مراعاة جوانب التربية المختلفة أو عدم التوازن بينها، وهذا نوع من القصور في التربية يترتب عليه سلبيات عدة، ولذا فإنك ترى مثلا من اهتم بالتركيز في تربية أولاده على الجانب العلمي حتى ولو كان شرعيا، وغفل عن الجانب الروحي الإيماني، فإن النتيجة غالبا أن مثل هؤلاء الأولاد يهتمون لفترة قصيرة بطلب العلم، وما أن ينتهي زادهم الإيماني حتى يبدؤوا في التخلي عن طلب العلم لعدم وجود الدافع الحقيقي الداخلي لهم على ذلك.
وكذلك تجد من يهتم بالجانب الروحي والإيماني مغفلا الجانب العلمي، ينشأ أبناؤه غالبا على مجرد أداء للعبادات دون معرفة بالعلم واهتمام به، وكلا الحالتين مخالفتين لهدي الإسلام، وهي قصور في التربية ينبغي على الآباء والأمهات ملاحظته والاهتمام به لأننا نريد أبناءنا قد تربوا على الإيمان والعلم والخلق والجد والاجتهاد، لا نريد أن نرى شابا على درجة من العلم وأخلاق سيئة أو مرتكبا للمحرمات، أو تجد شابا متدينا ولا يعرف شيئا من العلم.
والحقيقة هي أن إهمال هذا الجانب يؤدي إلى هدم البيوت، والذي يتبعه فيما بعد ضعف المجتمعات ثم هلاكها أو وقوعها في التبعية والتقليد.
ن وسائل التربية الناجعة!
لعل البعض الآن يتساءل ما هي الوسائل المجدية في التربية النافعة، بحيث يسهل على المربين من آباء وأمهات استخدامها لتحقيق ما يصبون إليه من ذرية صالحة نافعة يسعدون بها وينفعون مجتمعاتهم؟
لا شك أن صلاح الأولاد يعتمد في الدرجة الأولى على توفيق الله تعالى -كما يؤكد على ذلك الدكتور محمد العريفي "عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية"- وإن كان هذا لا يعني في رأيه أن يتكل الآباء على ذلك دون أخذ بالأسباب، فإن الله قد جعل لكل شيء سببا، وأولى أسباب التربية الصحيحة أن يحسن الرجل اختيار زوجته، إذ أن الزوجة ما هي إلا أم لأولاده، وهي أكثر وأشد تأثيرا عليهم منه لكونها أشد التصاقا وقربا لهم، ومن ابتلي بزوجة مقصرة فليبدأ بإصلاحها أولا. ويذكر العريفي قصة واقعية بهذا الشأن عن أحد الصالحين، يقول: ركبت مرة مع صديق لي ومعه أولاده الصغار، فلما صعدنا أحد الجسور إذا بأولاده يكبرون -لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد جبلا كبر وإذا هبط واديا سبح - فظن هؤلاء الصغار أنه كلما صعد الإنسان على شيء مرتفع كبر، فقلت لصاحبي إنك لست على قدر من الالتزام والعلم، فمن أين لأولادك أن يأتوا بمثل هذه السنن، فقال متبسما: هذا بسبب أمهم التي تلقنهم مثل هذه السنن والآداب، وتستخدم كل الوسائل والطرق لتعليمهم حتى صاروا بهذه الكيفية.
القدوة والصحبة وسائل هامة
وتلعب مسألة الصحبة والقدوة الحسنة دورا هاما في تشكيل شخصية الناشئ، وتجاه هذه المسألة يرى الدكتور عمر العيد أن أهم شيء ينبغي أن يعرفه الآباء والأمهات أن القدوة هي أكبر المؤثرات في حياة الأولاد، إذ أن الأبناء من عادتهم تقليد آبائهم في أخلاقهم وكلامهم وتصرفاتهم وحتى حركاتهم ومشيتهم، بل ويصل الأمر أيضا إلى التقليد في انفعالاتهم وعواطفهم، وهذا يوجب أن يكون الآباء قدوة صالحة لأبنائهم حريصين على ألا يصدر منهم ما لا يرضونه لأولادهم.
ويتساءل الدكتور العيد كيف يمكن لأب مثلا أن يربي أولاده على الخلق الحسن وهم يرونه لا يقلع عن سبهم وشتمهم في توجيههم وتأديبهم ، وكيف يمكن له أن يؤصل فيهم مبدأ الصدق وهم يرونه يستخدم الكذب عليهم للإفلات من طلباتهم وحاجياتهم.
ويرتبط بمبدأ القدوة أمر آخر له أثر إيجابي في التربية، ومع هذا يغفل عنه الكثيرون، ألا وهو تقوية علاقة الصغار بالكبار، فإن من الأخطاء الشائعة عند الناس عدم جلوس الصغار مع الكبار ومنعهم من حضور مجالسهم واجتماعاتهم، ومرة أخرى يتساءل الدكتور العيد إذا كنا نبعد الصغار عن مجالس الكبار، خاصة عند وجود الأهل والأقارب، ونجعل لهم مجالسهم الخاصة، فمتى سيأخذ هؤلاء الصغار حكمة الكبار، ومتى يتصفون بصفاتهم من الجد والاجتهاد والوقار والفكر الصائب والخلق النبيل، ويتابع حديثه قائلا إن بقاءهم مع الصغار يجعلهم لا يتغيرون عن حياة المزاح والدعابة واللعب والفوضى وضيق الأفق وعدم الطموح، بل ربما انعكس ذلك على أخلاقهم وتصرفاتهم وأفعالهم، فلا يشعرون بمسؤولية ولا يحسنون صنعا، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون الصغار مع الكبار في كل وقت وحين.
أما سائر أوقاتهم فيرى أنه لا بد من العناية بأمرين مهمين :
الأمر الأول هو اختيار أصدقاء صالحين للأبناء، فإن الصغار يأخذ بعضهم من بعض، فكلما حرص الأب على أن يكون أبناؤه مع صغار قد تربوا على الخير والصلاح والخلق الحسن والجد والاجتهاد، وأبعدهم عن صحبة السيئين أو المفرطين وإن كان من أقرب المقربين، كان ذلك عونا له على تربيتهم وتنشئتهم على ما يريد من الخير والصلاح، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي" وهذا يتطلب أيضا الحرص على اختيار المدارس الجيدة للأبناء، والتي يقضون فيها أغلب أوقاتهم وفيها تصقل مواهبهم وتنمى قدراتهم.
ويحسن هنا أن نذكر ما قاله "الدكتور عبد الرحمن العايد" من ضرورة إبعاد الأبناء عن حياة التضاد والتناقض، بمعنى أن الأبناء عندما ينبهون إلى خلق معين ويحذرون من ضده، ثم يجدون أنفسهم أمام أشخاص من زملاء وأصدقاء وأقرباء وغيرهم لا يقيمون لهذا الأمر وزنا، أو تجدهم على خلق سيئ، لا شك أن ذلك سيسبب ردة فعل له خاصة إذا كان ما يزال في بداية الطريق، ولذا فإن المربي كلما حرص على أن يبعد التناقض من حياة أبنائه بتطبيق ما يقوله على نفسه أولا، وباختيار صحبة على نفس المنهج، كان ذلك أدعى لترسيخ تلك المبادئ في نفوس أبنائه وقبولهم لها وتمسكهم بها.
الأمر الثاني الذي يشدد عليه "الدكتور العيد" هو ضرورة ملء فراغ الأبناء بما يعود عليهم بالنفع، فلا يمكن أن نخرج جيلا صالحا وأبناء على قدر من الخلق والاهتمام وقوة الشخصية وهم يقضون أوقاتهم في الشوارع والطرقات وفي جلسات لا نعلم كنهها، كما أن بقائهم في المنزل هكذا دون فعل ما ينفعهم أيضا له أضراره الكثيرة والسلبية لأن هؤلاء بمختلف أعمارهم لهم طاقة قوية في داخلهم، ولا بد من تفريغ هذه الطاقة، وذلك بأن نحاول إيجاد نشاط حيوي يحبونه ويعود عليهم في نفس الوقت بالنفع بدنيا ونفسيا ودينيا وعمليا، مع الحرص كل الحرص على إبعادهم عن وسائل اللهو والعبث والفضائيات الماجنة والمجلات المخلة الساقطة.
التوجيه لا يكون بارتكاب الأخطاء !!
ومن الأمور الهامة التي ينبغي أن ينتبه لها الآباء هو عدم معالجة أخطاء الأبناء بطريقة خاطئة، فكثيرا ما نلاحظ أن ابنا يقدم على ضرب أخيه، فيسارع والده بتوجيه ما حضره من ألفاظ مستهجنة، أوقد يلعب الطفل فيزعج والديه، فلا يكون العلاج إلا الضرب المبرح، وفي هذا المنحى يؤكد الدكتور العيد أنه ينبغي المسارعة إلى تصحيح الخطأ بمجرد وجوده وظهوره على الأبناء، سواء أكان هذا الخطأ يتعلق بأخلاقهم أو بإيمانهم أو تحصيلهم العلمي مثلا أو سلوكهم العام في الحياة، فإن ترك أو إهمال معالجة الأخطاء مهما كانت بسيطة يؤدي إلى استفحالها وإلى ما هو أكبر منها بحيث يصعب فيما بعد علاجها، مع التنبه إلى ضرورة إصلاح الخطأ بطريقة صحيحة، فلا يصلح الخطأ بخطأ آخر أعظم منه يرتكبه الأبوان، كاستخدام السب والشتم مثلا أو اللجوء إلى الضرب في كل صغيرة وكبيرة دون مبرر وكذا التوبيخ والتقريح أمام الآخرين.
ومن الأخطاء التي يقع فيها الأبوان -كما يقول الدكتور العايد- عدم التدرج في إصلاح أخطاء أبنائهم، وفي تعليمهم وتوجيههم خطأ آخر يقع فيه كثير من الآباء وله سلبياته الكثيرة، وهو مخالف لهدي الإسلام الذي استخدم التدرج حتى في التشريع في إيجاب الواجبات والنهي عن المحرمات كما هو معلوم ، وفي المقابل أيضا فإن التهاون في إصلاح الأخطاء بحجة التدرج أيضا خطأ آخر والمفترض على الأبوين التوسط في هذا الأمر وتقدير الأمر بقدره دون إفراط أو تفريط.
وأمر آخر يلفت الدكتور العايد الانتباه إليه، وهو أن الأبوين قد يقعان في بعض الأخطاء، وفي هذه الحالة يجب الاعتراف بخطئهما، وعدم المماراة فيه بحجة أن الأبناء لا يستوعبون ذلك، حتى لا يؤدي هذا التصرف إلى حالة من التناقض التي ينبغي أن تبعد عن حياة الأبناء، وليحذر الأبوان من تصيد الأخطاء على أبنائهم وكثرة التقريع والتوبيخ واتهامهم بالتقصير، فإن هذا الأسلوب لا شك أنه بعد فترة يؤدي إلى تبلد إحساس الأبناء واعتيادهم عليه، وبالتالي يفقد الجدوى منه، وربما أدى إلى الإحباط وعدم الرغبة في التقدم، والواجب عليهم بدلا من محاولة تصيد الأخطاء أن يحاولوا اكتشاف المواهب التي عند أبنائهم والمحافظة عليها ومحاولة تنميتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة أيا كانت هذه المواهب ما دامت أنها مباحة وتعود عليه بالنفع، فإن تنمية المواهب وتوجيهها يعين على التخلص من الأخطاء والحد منها.
لا تغفل عن هذين الأمرين
بقي أمران مهمان في مسألة تربية الأولاد أحدهما الدعاء فهو -والكلام للدكتور العيد- من أهم وسائل التربية، وهو صفة من صفات عباد الرحمن كما قال الله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما" فالأبوان بحاجة إلى أن يحفوا أبناءهم بدعوات صادقة بأن يصلحهم الله تعالى ويوفقهم في دينهم ودنياهم، فإن دعاء الأب لابنه مستجاب كما صح بذلك الحديث، ويتبع هذا ضرورة قراءة الكتب المتعلقة بالتربية ليستفيد منها المربي وتفتح له مجالات متنوعة في التربية والتوجيه.
أما الأمر الثاني فهو ما قاله الدكتور العريفي، وهو ضرورة التعبد لله تعالى في تربية الأولاد، واحتساب الأجر عند الله تعالى فيما ينفقه عليهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان عنده ثلاث بنات فرباهن وعلمهن وأطعمهن كن له حجابا من النار" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالإنسان إذا أخلص النية لله في تربية الأولاد أصبح كل ما ينفقه عليهم من مال وما يبذله من جهد في ميزان حسناته يوم القيامة يجده مع أجر الصلاة والزكاة والصيام والتطوع وغير ذلك من سائر العبادات.
ويختم حديثه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليرفع في الجنة درجات، فيقول يا رب بم هذا ولم أعمل ما يقربني لها؟ فيقول الله له: هذا بدعاء ولدك الصالح لك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"
وإذا كان الابن فاسدا لم ينشأ على طاعة الله فمن أين يدعو لوالديه بعد مماتهما، وإذا دعا فأنى يستجاب له.