نشأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مدرسة النبوة، ونهل من معينها العذب، فكان أعلم الصحابة بكتاب الله، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه، وحلاله وحرامه، وقصصه وأمثاله...قرأ القرآن حق قراءته، وعمل بأحكامه فأحلَّ حلاله وحرَّم حرامه، إنه ابن أم عبد، كما كان يلقب رضي الله عنه وأرضاه.
كان رضي الله عنه من السبَّاقين لقبول دعوة الإسلام، كما أخبر عن نفسه بقوله: (لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا) رواه ابن حبان في "صحيحه".
وهو أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوذيَ في الله لأجل ذلك.
ثم كان له شرف خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يخدمه في أكثر شؤونه؛ فهو صاحب طهوره وسواكه ونعله...ويلج عليه داره من غير حجاب، حتى ظن بعض الصحابة رضي الله عنهم، أنه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن مآثر هذا الصحابي الجليل أنه كان من أصحاب الهجرتين، وممن صلى إلى القبلتين، وممن شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر على هذا النهج مع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
كان رضي الله عنه من أحفظ الصحابة لكتاب الله، يشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن منه، ففي "الصحيحين" من حديث عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليَّ، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: فإني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغتُ: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} (النساء:41) قال: أمسك، فإذا عيناه تذرفان).
وصح في الحديث عن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه من ابن أم عبد) وفي رواية: (على قراءة ابن أم عبد) رواه أحمد.
لقد كان رضي الله عنه حريصاً كل الحرص على فهم كتاب الله، والوقوف على معانيه، وكان فوق ذلك على دراية بأسباب نزول الآيات؛ دل على هذا ما رواه مسروق، قال: قال عبد الله: (والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته) رواه مسلم.
وقد وردت كثير من الآثار التي تشهد لمنـزلة ابن مسعود العالية في التفسير، ليس هذا مكان استقصائها، وحسبنا ما ذكرنا؛ وقد علل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تلك المنـزلة التي تبوأها ابن مسعود، بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا يؤذن لهم بالدخول، الأمر الذي جعله أوفر حظاً في الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم نصيباً من الاغتراف من نبع النبوة الفياض.
ولم يكن عبد الله بن مسعود صاحب علم وفضل فحسب، بل كان صاحب عمل؛ يُنبئك بهذا ما رواه الطبري وغيره، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن).
بقي أن نشير في خاتمة هذا المقال إلى أن ابن مسعود رضي الله عنه كان أكثر مَن رُوِيَ عنه في التفسير بعد ابن عباس رضي الله عنه، وقد أخذ عنه جَمْع من التابعين، نذكر منهم: الأعمش، ومسروق، وعلقمة، والأسود بن يزيد، وغيرهم كثير.
ومن أصح الطرق التي روت عن ابن مسعود، طريق: الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود. وطريق: مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود؛ وقد اعتمد البخاري على كلا الطريقين في "صحيحه".
وليس عجبًا، بعد أن عرفنا هذه المنزلة لابن مسعود أن نرى جميع من كتب في تفسير القرآن الكريم قديمًا وحديثًا، يعتمدون في تفسير آياته على أقوال هذا الصحابي الجليل وغيره من الصحابة، الذين تلقوا عن مدرسة النبوة أصول التفسير وقواعده.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
التفسير و المفسرون