بدأت العلمانية في العالم الإسلامي كأفكار مارقة، ثم تحولت مع مرور الأيام إلى واقع يملأ حياة المجتعات الإسلامية، ويشمل مناحي عديدة منها، وأصبح الإسلام في نظر غير قليل من المسلمين في مرتبة الديانة المسيحية في الغرب، من حيث أنه علاقة روحية محصورة في المسجد فحسب، مثلما أصبحت المسيحية محصورة في الكنيسة .
وبعد أن فَقَدَ الإسلام سيطرته على حياة المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أخذت دائرة نفوذه تضيق شيئا فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محدودة، وقد تم هذا التطور تدريجيا دون وعي وانتباه من المسلم العادي، فإلى عهد قريب لم يكن للمسلم اتجاه سياسي يخالف الإسلام، ولا أدب إلا الأدب الإسلامي، ولا أعياد إلا الأعياد الإسلامية، ولم يكن ينظر إلى العالم الخارجي إلا بمنظار الإسلام، وكان الإسلام هو كل شيء بالقياس إليه، أما الآن فقد حصل تحول شبه كلي فيما يتعلق بموقع الإسلام من الحياة، وانتشرت العلمانية كالناقة العشواء تخبط كل قيم المجتمع وثوابته، ففي الحكم نُحيت الشريعة الإسلامية وحصرت في جانب من الأحوال الشخصية، أما ما سوى ذلك من أحكام، فاصطبغت بالصبغة العلمانية البحتة، واستوردت لها القوانين الشرقية والغربية .
وكذلك الحال في الجانب الاقتصادي فقد أقيم الاقتصاد في العالم الاسلامي وفقا للنظام الاقتصادي الغربي، فاستحل الربا والمعاملات المحرمة، بل أصبح النظام المصرفي قائماً على تلك المعاملات ومرتهناً بها .
وأما في الجانب التعليمي والثقافي فقد انتشرت النظريات المضادة للإسلام، ودرست في جامعات المسلمين ومدارسهم، وفي مقابل ذلك همش التعليم الإسلامي وحورب، وأصبح يشغل - إن وجد - هامشا ضيقا وثانويا في المجال التعليمي العام .وانتشرت الكتب والروايات التي تطعن في الدين وتسيء إليه .
وكذلك الحال في الفن حيث تحول إلى أداة علمنة تمارس على المجتمع صباح مساء، واستخدم الفن لإعادة صياغة مفاهيم المجتمع وفق النظرة العلمانية للحياة، فرسخ عادات كانت قبيحة بنظر المجتمع، كخروج الفتاة بصحبة شاب مثلا، وألقى بظلال من الشبه بل والاستهزاء على أحكام شرعية ثابتة ، وغدا الفن في العالم الإسلامي في الجملة معول هدم لكثير من القيم الإسلامية .
وليس الحال في الجانب الاجتماعي بأهون مما سبق، حيث صاح الناعقون بقضية المرأة ، ورفعوا لواء تحريرها، وألفوا الكتب في سبيل ذلك، وقصد كثير منهم من وراء ذلك إخراج المرأة عن هدي ربها، وقذفها في محاضن الشهوات والفتن، والواقع خير شاهد ودليل على ما نقول، فما آل إليه حال المرأة المسلمة يندى له الجبين من تبرج وسفور، إذ أصبحت المرأة كالسلعة تمتهن باسم الفن والموضة والأناقة، وفقدت المرأة دورها الأساسي في الحياة في تربية النشء والقيام على رعايته .
لقد بدت صورة المجتمع المسلم في إطار العلمانية صورة مختلفة تماما عما أراد الله عز وجل لهذه الأمة من خير وهدى، وأصبح المسلم يمارس أكثر حياته بعيدا عن الدين بفرائضه وآدابه، فاصطبغت الحياة بصبغة علمانية مظلمة .
تلك بعض مظاهر العلمانية في عالمنا الإسلامي، وهي مظاهر لا يحتاج الناظر إلى كبير عناء لرصدها، فهي واضحة للعيان، بادية لكل ذي بصر وبصيرة .
ومن الأهمية بمكان في هذا المقام أن نبين بعض الفروق الجوهرية بين العلمانيتين، علمانية الشرق المسلم وعلمانية الغرب الملحد أو النصراني، ولاستجلاء هذه الفروق، لا بد من معرفة الخلفية الثقافية لهما، فالغرب النصراني في أكثره ارتدَّ على عقبه وكفر بالكنيسة ودين الكنيسة، أما البقية الباقية ممن بقي على دين الكنيسة فسرعان ما توافقت نفسيا وسياسيا بل ودينياً مع العلمانية وسارت في ركابها، ووجدت لها من الأناجيل ما يدَّعم هذا التوافق ويؤيده، حيث جاؤوا بالشواهد الإنجيلية، فاستدلوا بها ليؤسسوا للعلمانية، ويجعلوا لها منطلقاً دينيا كما كان للإقطاع سابقا منطلقه الديني !! .
أما في الشرق المسلم فالوضع مختلف تماماً، فما كان دين الإسلام في يوم من الأيام كدين الكنيسة، وما كان المسلمون كالنصارى، فهم وإن ظهرت فيهم الأفكار الضالة والنحل الكافرة من شيوعية وبعثية ونحوها، إلا أن ذلك لم يحصل إلا على نطاق ضيق، في حين ظلَّ جمهور المسلمين على معتقده الصحيح في الإسلام، فلم تحصل حركة ارتداد واسعة كفرت بالإسلام وعادَتْه كالتي حصلت في الغرب، بل ظل المسلمون متمسكين بدينهم مقتنعين به، وفي المقابل لم يجدوا في الإسلام إلا كل تجريم للعلمانية، فالقرآن ينص بوضوح على أن الحكم يجب أن يكون لله لا للبشر، وأن السلطة التشريعية هي سلطة إلهية ممثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المسلم مطالب بأن يستسلم لها، ويؤمن بها ويرضى بأحكامها، وإلا عُدَّ خارجا من الإسلام مرتدا عنه، في حين أن العلمانية تجعل السلطة التشريعية في يد الدولة، فدخلت في مناقضة صريحة مع الدين الإسلامي، ومن هنا تحولت العلمانية في الشرق المسلم من طرف محايد في نظرته إلى الدين إلى طرف محارب له, فافترقت العلمانية في الغرب النصراني عن العلمانية في الشرق الإسلامي افتراقا بينا .
وأصل المشكلة - فيما نرى - تكمن في جناية من استورد العلمانية إلى بلاد المسلمين التي لها خلفية دينية وتاريخية مختلفة تماما، فكان حاله أشبه بمن جاء بشجرة تنبت في القطب المتجمد الشمالي وزرعها في الصحراء العربية، فلا شك أن تجربته ستؤول إلى الفشل ، وهي نفس النتيجة التي حققتها العلمانية في الشرق الإسلامي فبدا التململ واضحا، وظهرت الحركة الشعبية المطالبة بتحكيم الشريعة وطرح العلمانية ، ولولا ما تُقابَل به هذه الحركات من تضييق وكتم للأنفاس، لكانت العلمانية منذ زمن في مزبلة التاريخ .
وإننا لعلى يقين من مجيء ذلك اليوم، الذي تنبذ فيه العلمانية من قبل جماهير المسلمين، وإن غدا لناظره قريب .