من التفاسير التي كان لها حضور في الثقافة الإسلامية تفسير "روح المعاني" لمؤلِّفه محمود الآلوسي البغدادي، أبو الثناء شهاب الدين، من علماء القرن الثالث عشر الهجري، ويلقب بـ "الآلوسي الكبير" تمييزاً له عن باقي العلماء الآلوسيين الذين انحدروا من هذه الأسرة التي اشتهر أهلها بالعلم.
كان الآلوسي رحمه الله شيخ العلماء في العراق في عصره، ونادرة من النوادر التي جادت بها الأيام؛ جمع كثيراً من علوم المنقول والمعقول، وأحكم فهم علمي الفروع والأصول...وكان مع هذا وذاك مفسراً لكتاب الله لا يبارى، ومحدثاً للسنة لا يُجارى.
ومع أنه رحمه الله كان شافعي المذهب إلا أنه في كثير من المسائل كان يقلد الإمام أبا حنيفة، وكان عالماً باختلاف المذاهب، ومطلعاً على الملل والنحل، وكان في آخر حياته يميل إلى الاجتهاد، وقد خلَّف ثروة علمية كبيرة ونافعة، يأتي في مقدمتها تفسيره المسمى (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) وهو محور حديثنا في هذا المقال.
وهذا التفسير -كما يتبين للناظر فيه- قد أفرغ فيه مؤلِّفه وسعه، وبذل جهده، حتى أخرجه للناس تفسيراً جامعاً، لآراء السلف رواية ودراية، ومشتملاً على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو تفسير -و الحق يقال- جامع لخلاصة ما سبقه من التفاسير.
ثم إن المؤلف رحمه الله إذ ينقل من تفاسير من سبقه من المفسرين، لم يكن مجرد ناقل فحسب، بل كان يُنَصِّب من نفسه حكماً عدلاً، على كل ما ينقل، ويجعل من نفسه ناقداً مدققاً وممحصاًَ لكل رأي وقول، ثم هو بعدُ يُبدي رأيه حراً فيما ينقل.
ويلاحظ على مؤلِّفنا أنه كان كثيراًَ ما يتعقب الرازي في العديد من المسائل الفقهية، ويخالفه الرأي فيها...لكن إن استصوب رأياً لبعض من ينقل عنهم انتصر له، ونافح عنه بكل ما أوتى من قوة.
لكن مما يؤخذ على الآلوسي أنه كان مترددًا في مسائل الأسماء والصفات بين مذهبي السلف والخلف؛ فهو أحيانًا يميل إلى مذهب السلف ويقرره وينسب نفسه إليه، كما فعل عند تفسيره لصفة الحياء، في قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا} (البقرة:26). وأحيانًا أخرى نجده يميل لمذهب الأشاعرة وينتصر لهم، كما فعل عند تفسيره لصفة الكلام، في قوله تعالى: {منهم من كلم الله} (البقرة:253) ونحن في حين ثالث نجده يُظهر نوعًا من التحفظ وعدم الصراحة الكاملة، كما فعل عند حديثه على صفة الفوقية، في قوله تعالى {يد الله فوق أيديهم} (الفتح:10) وفي حين آخر نجده يقرر مذهب السلف والخلف ويرجح مذهب الخلف، كما فعل في صفة الاستواء في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طـه:5) وهكذا نجده متردداً رحمه الله بين مذهب السلف والخلف؛ ولأجل هذا عدّه بعضهم من أصحاب التفسير بالمعقول.
ثم إننا نلحظ من منهجه في تفسيره -فوق ما تقدم- الأمور التالية:
- استطراده كثيرًا في المسائل الكونية، التي ليس لها علاقة وثيقة بعلم التفسير.
- وكان له استطراد أيضاً في ذكر المسائل النحوية، إذ كان يتوسع بها أحياناً إلى درجة يكاد يخرج بها عن وصف كونه مفسراً.
- أما المسائل الفقهية فمنهجه فيها أن يستوفيَ أقوال أهل العلم في المسألة موضوع البحث، ومن ثَمَّ يختار منها ما يؤيده الدليل، من غير تعصب لمذهب معين، بل رائده في ذلك: أن الحق أحق أن يُتَّبع.
- وكانت للمؤلف رحمه الله عناية ملحوظة بنقد الروايات الإسرائيلية، وتفنيد الأخبار المكذوبة، التي ساقها بعض المفسرين السابقين له؛ فنحن -مثلاً- نجده يُعَقِّب بعد أن ساق قصة من القصص الإسرائيلي، فيقول: "وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث، وكذب على الله تعالى، إنما العجب ممن يُدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره، ولا يُبيِّن أمره"، وعلى هذا المجرى يجرى في تفنيده لتلك المرويات والأخبار.
- وكغيره من المفسرين السابقين، نجد الآلوسي يعرض للقراءات القرآنية الواردة في الآية الكريمة، بيد أنه لا يتقيد بالمتواتر منها، بل ينقل غير المتواتر لفائدة يراها، ولكن يُنبِّه عليه.
- ويُلاحظ أن للآلوسي عناية ملحوظة بذكر أوجه المناسبات بين الآيات والسور، مع تعرضه لذكر أسباب النزول، لفهم الآيات وفق أسباب نزولها.
وأخيراً، فإن الآلوسي في تفسيره كان ميَّالاً إلى التفسير الإشاري، وهذا ما أُخذ عليه؛ فهو بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، تُراه يذكر لها تفسيراًَ إشاريًّا، أي يفسرها تفسيراً يخرج بها عن ظاهرها، وهذا منه فيه ما هو مقبول، وفيه ما هو مردود، لا يوافق عليه.
ومهما يكن، فإن تفسير (روح المعاني) يبقى موسوعة تفسيرية قيِّمة، جمعت جُلَّ ما قاله علماء التفسير المتقدمين، وامتازت بالنقد الحر، والترجيح المعتمد على الدليل، والرأي البنَّاء، والاتزان في تناول المسائل التفسيرية وغيرها، مما له ارتباط بموضوع التفسير.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
التفسير و المفسرون