فى بيت يعطره حب الدعوة، وتمتليء قلوب ساكنيه بالإيمان والقيم الإسلامية، فترفرف السعادة بأجنحتها عليهم، جلست أرتشف رحيقًا إيمانيًا أهداه لى حوار ممتع مع علم من علماء الأزهر الشريف، وهو الدكتور محمد عبد المنعم البرى - عميد مركز الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر ورئيس جبهة علماء الأزهر الشريف سابقًا - الذى تحدث عن أسرته .. زوجة صالحة، وأبناء بارين، فاكتشفت أنه لا حدود داخله بين الداعية ورب الأسرة، إنه يتعامل مع أسرته بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة، ويعتبر كل من يدعوهم أبناءه.
استقبلنى د. البرى بحفاوة وكرم بالغين فى منزله بحدائق القبة، وقام بإعداد وتقديم المشروبات والحلوى بنفسه، فشعرت أننى أمام مسلم يتمثل بسنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مع أهل بيته، وانسابت الأسئلة والأجوبة فى سلاسة وطلاقة فلم أشعر بأننى أجرى حوارًا صحفيًا، وإنما أقطف ثمارًا حلوة لخبرة عمر من العطاء الأسرى الجميل، ولنتذوقها معًا.
**زواج بلا تكاليف***
اثنان وثلاثون عامًا هى عمر زواج د. البرى ويحكى قصته من البداية فيقول:
فى عام النكسة ( 1967 ) هاجر معظم أهل منطقة القناة، وكان لوالدى منزل كبير به أكثر من طابق فاستضاف بعض أقاربنا من سكان مدينة الإسماعيلية، وكانت لديهم ابنة طيبة مهذبة، وكنت أنا فى مرحلة أتهيأ فيها للزواج، فرشح والدي هذه الفتاة، فوافقت بعد أن وجدت فيها التدين وحسن الخلق، وبالفعل تمت الخطبة وعقد الزواج فى الإسماعيلية موطن زوجتى، وكان والد زوجتى رجلاً عاقلاً حكيمًا، فعندما أوضحت له ظروفى المتواضعة وافق على أن أتزوج ابنته بأبسط التكاليف على أن نستكمل بيتنا على المدى البعيد، فلم يأخذ منى سوى 150 جنيهًا مهرًا، وقام بتأثيث أربع حجرات، وكان مقدم الزواج جنيهًا والمؤخر خمس جنيهات، وتكفل والدى (رحمه الله) بمصاريف الفرح، وتم الزفاف فى جو عائلى بعد مرور ثلاثة أشهر على الخطبة.
وعلى الرغم من غنى والدى كنت أدفع له ربع مرتبى شهريًا من باب {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، ولقد فتح الله عليّ، بعد مرور عام على زواجى بعقدين أحدهما للسعودية والآخر للإمارات، وهذا جزاء الصابرين، وكان مرتب عقد الإمارات أربعة أضعاف مرتب السعودية، ولكنى آثرت السعودية حتى أتمكن من أداء العمرة، وأكون بالقرب من المسجد الحرام، وبالفعل سافرت إلى السعودية لأعمل أستاذًا للحديث الشريف والتوحيد بدار التوحيد الثانوية بالطائف، وبعد ذلك شرفنى الله (عز وجل) بإلقاء دروس فى المسجد الحرام، وجاء ذلك بمرسوم ملكى وهذا من عطاء الله وفضله.
الزوجة - ربة منزل - أليس كذلك؟
يرد د. البردى بحسم: أنا لا أحب العاملات ويبتسم .. "عمومًا زوجتى موظفة عندى" وأنا أهييء لها كل الأسباب التى تساعدها على أداء رسالتها كربة أسرة، فوضع الطفل فى حضانة فى سنى عمره الأولى يجعله يفتقد لرعاية أبويه وبخاصة أمه فينشأ صنمًا مجردًا من العواطف والمشاعر الإنسانية، ولا زال يدمى قلبى مقتل أو استشهاد وكيلة الإذاعة المصرية السيدة سعاد على حسن وزوجها أستاذ القلب المعروف الدكتور محمد عبد العزيز، وهما ساجدان لله برصاص ابنهما الوحيد الذى كتبت له أمه وهو طفل أغنية "إلهى يحرسك من العين وتكبر لى يامحمد" حيث نشأ الطفل فى حضن المربيات، وتوفرت له الإمكانات المادية المترفة، ولكنه افتقد لروح الأمومة فهربت عنه الروحانيات وتحول إلى قاتل، ولمن؟ لوالديه!!
**شروط عمل المرأة***
دون أن أسأله عن موقفه من عمل المرأة يجيبنى د. البرى :
لا بأس بعمل المرأة ومرحبًا به بشرط الحفاظ على الشرف والعفاف وعلى ألا تظلم أطفالها، فعندما أنجبت التوأم عبد الله وآلاء أرادت زوجتى أن تودعهما حضانة مجاورة لنا، وكان عمرهما آنذاك عامين ونصف، فوافقت على الرغم من رفضى الداخلى لهذه الفكرة، ولكنى لا أحب أن أكون شريكًا مخالفًا، وقلت فى نفسى اتركها تكتشف الخطأ بنفسها، وبالفعل تراجعت عن الفكرة فى بدايتها حينما وجدت الأطفال يُهمَلُون فى الحضانة، ويُتَرَكُون فى حالة يرثى لها من الجوع وعدم النظافة.
ثم ينتقل د. البرى إلى محطة أخرى من محطات حياته الأسرية فيقول: لقد منّ الله عليّ بالذرية فرزقنى البنين والبنات، فاتبعت سنة الهادى المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فى تربيتهم واجتهدت فى ذلك من الأسبوع الأول للولادة، فالرسول علمنا حمل الأطفال أثناء الصلاة، لذا كنت أحمل ولدى وأنا أصلى، وعندما يبدأ فى المشى أعلمه الصلاة.
**القدوة الحسنة***
وهنا توجهت إلى فضيلة د. البرى بسؤال: هل تربية البنت تختلف عن تربية الولد؟
فأجاب: بالطبع نعم ، فالبنت أرهف حسًا وأرق شعورًا بدليل أنها أسرع على البكاء من الولد، لذا يجب أن تراعى هذه الخصائص، فعلاج الخطأ برفق ورقة يجدى مع البنت عن الولد، ولابد أن أغرس لدى البنت الثقة ، أشعرها بمكانتها العالية ، مما يجعلها تترفع عن الوقوع فى الخطأ، وخصوصًا إذا وجدت من والديها قدوة حسنة.
لقد كنت دائمًا أقول لبناتى: إن زنا البنت فى مكان مستتر أخف ضررًا من أن تتبرج، فالتبرج يدمر مجتمعًا بأكمله، أما جريمة الزنا فهى محصورة بين اثنين، لذا فالفساد الاجتماعى أكثر ضررًا من الفساد الشخصى، وبهذا تستشعر الفتاة عظمة جرم الخروج على طاعة الله.
ويضيف: إن استعمال العصا والضرب لابد منه فى مرحلة ما قبل المراهقة (السبع الثانية فى عمر الطفل)، وأنا تركت هذا الأمر للحاجة أم أيمن لأنها ألصق بالأبناء ، أما أنا فالحزم والمهابة لى، فالأولاد يجب أن يستشعروا قوة الأب ومهابته، وفى الأمور الحياتية العادية تقف الأم موقف الشدة والعقاب، ويقف الأب موقف الحسم الذى يمنع الرجوع إلى الخطأ.
أما فى الأمور الجسيمة - عافانا الله منها - فالأب يتصدى لها أولاً وأخيرًا، وأنا بين حين وآخر أعد لقاء روحيًا داخل الأسرة نجلس فيه وأتحدث مع أبنائى بما يفتح الله عليّ، وأجيبهم على أى تساؤل، ولقد اعتدت أن أصلى النوافل فى البيت لكى أؤم الأبناء، وعندما أكون غائبًا ينوب عنى ابنى الأصغر عبد الله .
**الصديق القوى***
وعن مرحلة المراهقة فى حياة أبنائه يقول د. البرى: يجب أن تحترم مشاعر الولد أو البنت فى هذه المرحلة، وأنا تعاملت مع أبنائى بلغة الصديق القوى إلى جانب أننى هيئت لهم الصياغة النفسية الأولى منذ مرحلة الحضانة، فالأم والأب يجب أن يلازما الطفل حتى تختفى ظاهرة أطفال المفاتيح، (حيث كل طفل يكون لديه مفتاح للشقة يدخل ويخرج كيفما شاء، ومن هنا يحدث الخلل، إذن البيوت الملتزمة المؤمنة تمر فيها مرحلة مراهقة الأبناء دون أن يشعر بها الوالدان، فالصورة المثالية الأخلاقية تغرس فى الصغر بطريقة غير مباشرة إما بالسلوك، أو من خلال اصطحاب الطفل إلى مجالس العلم والدين ليتعرف على الصحبة الصالحة.
وأذكر أننى فى مرحلة الشباب كان لدى صديق فى عمر والدى، وهذا جعلنى أنضج بسرعة ولا أعبث مثل الشباب، وأود أن أذكر فى هذا المقام واقعة حدثت لأحد أبنائى فى مرحلة المراهقة، حيث جاءنى صديق مخلص وأخبرنى أنه شاهد ابنى يجلس مع فتاة على أريكة خشبية بالشارع، وهنا كان على أن أعالج الأمر بحكمة، فسألت ابنى عن مدى صحة ذلك فأجاب: لقد كنت أقوم بدور المصالحة بين هذه الفتاة وأحد أصدقائى بناءً على طلبه، فقلت له: هل تعجبك هذه الفتاة لو كانت تصلح لك زوجة أخطبها لك اليوم؟ وهنا أكد لى ابنى أنه لايفكر فى ذلك وأن الواقعة كما شرح لى، فقمت بتوجيهه بحكمة، وأعلمته أن إن ما قام به خطأ، وعاهدنى على ألا يرجع لمثل هذا الأمر.
وانتهى الموضوع بمودة ودون عقاب، وكانت الفائدة أعظم ، وأصبح ابنى هذا من أصلح وأتقى أبنائي، وأذكر أننى عندما كنت فى الإمارات كان ابنى الأكبر أيمن فى الجامعة بمصر، وأردت أن أطمئن عليه فقيل لى: إنك بسفرك قطعت درس الفجر عنا ولكن ابنك أيمن وصله بعد ذلك فحمدت الله .
**اصطبر***
داعية مثلكم لابد أن له منهجه فى التعامل مع شريكة حياته حال حدوث خلافات أليس كذلك ؟
يجيب د. البرى باسمًا: هو ليس منهجى الخاص إنه ما علمنا رسول الله (صلى الهل عليه وسلم) حين قال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى" ، فعقد الزواج من أسمى وأشرف العقود الذى تهتز السماء إذا طاله سوء، وعندما أختلف مع زوجتى أنهى المناقشة وأترك لها حرية أن تفعل ما تريد على ألا يكون فى ذلك معصية أو خروجًا على القيم والأخلاق، وهذا لا يمنع تمسكى برأيى فى المواقف الحاسمة والفاصلة، وبتجربتى أنصح الأزواج والزوجات بالترفع عن الصغائر عند حدوث خلافات، والتحلى بالصبر والحلم ، وعلى الرجل أن يحترم موقعه "كقوام" على الأسرة فيعف لسانه عن الخطأ، ويصطبر على امرأته تنفيذًا لقوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}.
ويقول العلماء: إن زيادة المتن فى (اصطبر) تدل علي زيادة المعنى، إذن الزوج يحتاج إلى أكثر من صبر، فلا ينفعل، فالانفعال لا يوصل إلى النجاح، ولكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها.
**المهر جنيه واحد ***
وبسؤال د. البرى عن مشاركته فى اختيار أزواج بناته وزوجات أبنائه يقول: فى الحقيقة أنا أخذت بمبدأ "اخطب لابنتك ولا تخطب لابنك"، لأن البنت أغلى، والذى علمنا ذلك المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ولقد وهبنى الله ملكة فرز المعادن، فالرسول يقول: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، فمن خلال اشتغالى كمربى روحى أعرف معدن الإنسان من أول لقاء به، ولقد تزوجت أولى بناتى من أحد تلاميذى فى المسجد، وحينما طلب منى أن نكتب قائمة للأثاث، ونحدد مؤخر الصداق قلت له : أنا لا أمضى على قوائم وحددت له المقدم جنيه والمؤخر جنيه ، وربنا رزقه بخالد ومحمد، فاختيار الأزواج لبناتى يكون عن طريق تقييمى لمعدنهم، وبعد ذلك تعلن البنت رأيها، إما بالقبول أو الرفض، أما بالنسبة لأبنائى الذكور فلا أتدخل فى اختيارهم سوى بالنصح والمشورة.
- الكاتب:
مراسلة القاهرة - التصنيف:
زوج .. وزوجة