المسألة العاشرة : في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة
اختلفوا في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة ، هل يعود إلى الجميع ، أو إلى الأخيرة ، كقوله سبحانه : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله إلا من تاب .
فذهب ، وأصحابه إلى أنه يعود إلى جميعها ، ما لم يخصه دليل . الشافعي
وقد نسب ابن القصار هذا المذهب إلى مالك .
[ ص: 432 ] قال الزركشي : وهو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك
ونسبه صاحب المصادر إلى ، وحكاه القاضي القاضي عبد الجبار أبو بكر عن الحنابلة قال ، ونقلوه عن نص أحمد ، فإنه قال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم . لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه
قال : أرجو أن يكون الاستثناء على كله .
وذهب أبو حنيفة ، وجمهور أصحابه إلى أنه يعود إلى الجملة الأخيرة ، إلا أن يقوم دليل على التعميم .
واختاره . وقال الفخر الرازي الأصفهاني في القواعد : أنه الأشبه . ونقله صاحب المعتمد عن الظاهرية . وحكى عن أبي عبد الله البصري ، ، وإليه ذهب وأبي الحسن الكرخي أبو علي الفارسي . كما حكاه عنه ، إلكيا الطبري وابن برهان .
وذهب جماعة إلى الوقف ، حكاه صاحب المحصول عن القاضي أبي بكر ، والمرتضى من الشيعة . قال في التقريب : وهو مذهب سليم الرازي الأشعرية ، واختاره ، إمام الحرمين الجويني ، والغزالي . وفخر الدين الرازي
قال في المحصول بعد حكاية الوقف عن أبي بكر ، والمرتضى إلا أن المرتضى توقف للاشتراك ، والقاضي لم يقطع بذلك .
ومنهم من فصل القول فيه ، وذكروا وجوها .
[ ص: 433 ] وأدخلها في التحقيق : ما قيل إن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو من نوعين ، فإن كان الأول ، فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى ، أو لا تكون كذلك ، فإن كان الثاني ، فإما أن تكونا مختلفتي الاسم والحكم ، أو متفقتي الاسم مختلفتي الحكم ، أو مختلفتي الاسم متفقتي الحكم .
فالأول : كقولك : أطعم ربيعة ، واخلع على مضر ، إلا الطوال ، والأظهر هاهنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة ; لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها ، إلا وقد تم غرضه من الجملة الأولى ، فلو كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل ، لم يكن قد تم غرضه ، ومقصوده من الجملة الأولى .
والثاني : كقولنا : أطعم ربيعة ، واخلع على ربيعة إلا الطوال .
والثالث : كقولنا : أطعم ربيعة ، وأطعم مضر ، إلا الطوال ، والحكم أيضا هاهنا كما ذكرنا ; لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة ، فالظاهر أنه لم ينتقل إلى أخراهما إلا وقد تم غرضه من الأولى بالكلية .
وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى ، فإما أن يكون حكم الأولى مضمرا في الثانية ، كقوله : أكرم ربيعة ومضر ، إلا الطوال ، أو اسم الأولى مضمرا في الثانية ، كقوله أكرم ربيعة ، واخلع عليهم ، إلا الطوال ، فالاستثناء راجع إلى الجملتين ; لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى ، فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما .
وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام ، فإما أن تكون القصة واحدة أو مختلفة ، فإن كانت مختلفة فهو كقولنا : أكرم ربيعة ، والعلماء هم المتكلمون ، إلا أهل البلدة الفلانية ، فالاستثناء راجع إلى ما يليه ، لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها .
وأما إن كانت القصة واحدة فكقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية فالقصة واحدة ، وأنواع الكلام مختلفة ، فالجملة الأولى أمر ، والثانية نهي ، والثالثة خبر ، فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة ، لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين [ ص: 434 ] بنفسها ، والإنصاف أن هذا التقسيم حق ، لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف لا بمعنى دعوى الاشتراك ، بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا ، وهذا هو اختيار القاضي . انتهى .
قال ابن فارس في كتاب فقه اللغة العربية إن دل الدليل على عوده إلى الجميع ، عاد كآية المحاربة ، وإن دل على منعه امتنع كآية القذف . انتهى .
ولا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع ، فإنه لا خلاف أنه إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه ، وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين .
واستدل أهل المذهب الأول : بأن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة ، قالوا : بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة ، فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعا .
وأجيب : أيضا عن القياس على الشرط بالفرق بينهما ، وذلك بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر .
ويجاب عن الأول : بأن الجمل المتعاطفة لها حكم المفردات ، ودعوى اختصاص ذلك بالمفردات لا دليل عليها .
وعن الثاني : بأنه يمنع مثل هذا الفرق ; لأن الاستثناء يفيد مفاد الشرط في المعنى ، واستدل أهل المذهب الثاني بأن رجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل هو الظاهر ، فلا يعدل عنه إلا بدليل ، ويجاب عنه بمنع دعوى الظهور .
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن القيد الواقع بعد جمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها ، لا من نفس اللفظ ، ولا من خارج عنه ، فهو عائد إلى جميعها ، وإن منع [ ص: 435 ] مانع فله حكمه ، ولا يخالف هذا ما حكوه عن عبد الجبار وجعلوه مذهبا رابعا ، من أن الجمل إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد انصرف إلى الجميع ، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة ، فإن كونها مسوقة لأغراض مختلفة هو مانع من الرجوع إلى الجميع .
وكذا لا ينافي هذا ما جعلوه مذهبا خامسا ، وهو أنه إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله : أكرم بني تميم ، والنحاة البصريين إلا البغاددة ، فإنه يختص بالأخيرة ; لأن كون الواو للابتداء هو مانع من الرجوع إلى الجميع .
وكذلك لا ينافي هذا ما حكوه مذهبا سادسا ، من كون الجملة الثانية إن كانت إعراضا وإضرابا عن الأولى ، اختص بالأخيرة ; لأن الإعراض والإضراب مانع من الرجوع إلى الجميع .
وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة ، وساقوا من أدلة المذاهب ما لا طائل تحته ، فإن بعضها احتجاج بقصة خاصة في الكتاب أو السنة ، قد قام الدليل على اختصاصها بما اختصت به ، وبعضها يستلزم القياس في اللغة ، وهو ممنوع .