النوع الرابع :  أن الخبر باعتبار آخر ، ينقسم إلى متواتر وآحاد      .  
القسم الأول : المتواتر ، وهو في اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما ، مأخوذ من الوتر .  
وفي الاصطلاح : خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم .  
وقيل في تعريفه : هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه .  
وقيل : خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم . فقوله : من حيث كثرتهم ، لإخراج خبر قوم يستحيل كذبهم بسبب أمر خارج عن الكثرة ، كالعلم بمخبرهم ضرورة أو نظرا ، وكما يخرج من هذا الحد بذلك القيد ما      [ ص: 167 ] ذكرنا ، كذلك يخرج من قيد " بنفسه " في الحد الذي قبله .  
وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري   ؟  
فذهب الجمهور إلى أنه ضروري .  
وقال  الكعبي  وأبو الحسين البصري :  إنه نظري .  
وقال   الغزالي     : إنه قسم ثالث ليس أوليا ولا كسبيا ، بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، وقالت السمنية والبراهمة : إنه لا يفيد العلم أصلا ، وقال  المرتضى   والآمدي  بالوقف .  
والحق قول الجمهور ، للقطع بأنا نجد نفوسنا جازمة بوجود البلاد الغائبة عنا ، ووجود الأشخاص الماضية قبلنا ، جزما خاليا عن التردد ، جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات ، فالمنكر لحصول العلم الضروري بالتواتر ، كالمنكر لحصول العلم الضروري بالمشاهدات ، وذلك سفسطة لا يستحق صاحبها المكالمة .  
وأيضا : لو لم يكن ضروريا لافتقر إلى توسيط المقدمتين ، واللازم منتف ، لأنا نعلم بذلك قطعا مع انتفاء المقدمتين ; لحصوله بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب .  
 [ ص: 168 ] واستدل القائل بأنه لا يفيد العلم بقولهم : لا ننكر حصول الظن القوي بوجود ما ذكرتم ، لكن لا نسلم حصول اليقين ، وذلك لأنا إذا عرضنا على عقولنا وجود المدينة الفلانية ، أو الشخص الفلاني مما جاء التواتر بوجودهما ، وعرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين ، وجدنا الجزم بالثاني أقوى من الجزم بالأول ، وحصول التفاوت بينهما يدل على تطرق النقيض إلى المرجوح . وأيضا : جزمنا بهذه الأمور المنقولة بالتواتر ليس بأقوى من جزمنا بأن هذا الشخص الذي رأيته اليوم هو الذي رأيته أمس ، مع أن هذا الجزم ليس بيقين ولا ضروري ; لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو له في الصورة من كل وجه .  
ويجاب عن هذا : بأنه تشكيك في أمر ضروري ، فلا يستحق صاحبه الجواب ، كما أن من أنكر المشاهدات لا يستحق الجواب ، فإنا لو جوزنا أن هذا الشخص المرئي اليوم غير الشخص المرئي أمس ، لكان ذلك مستلزما للتشكيك في المشاهدات ، واستدل القائلون بأنه نظري بقولهم : لو كان ضروريا لعلم بالضرورة أنه ضروري .  
وأجيب : بالمعارضة بأنه لو كان نظريا ، لعلم بالضرورة كونه نظريا كغيره من النظريات ، وبالحس ، وذلك أن الضرورية والنظرية صفتان للعمل ، ولا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته .  
واحتج الجمهور أيضا : بأن العلم الحاصل بالتواتر لو كان نظريا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر ، كالصبيان المراهقين وكثير من العامة ، فلما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري .  
وكما يندفع بأدلة الجمهور قول من قال : إنه نظري ، يندفع أيضا قول من قال : إنه قسم ثالث ، وقول من قال بالوقف ; لأن سبب وقفه ليس إلا تعارض الأدلة عليه ، وقد اتضح بما ذكرنا أنه لا تعارض ، فلا وقف .
واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ، ولا من العقلاء في أن خبر التواتر يفيد العلم ، وما روي من الخلاف في ذلك عن السمنية والبراهمة ، فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه .  
شروط إفادة المتواتر للعلم  
ثم  اعلم أن الخبر المتواتر لا يكون مفيدا للعلم الضروري إلا بشروط   ، منها ما يرجع      [ ص: 169 ] إلى المخبرين ، ومنها ما يرجع إلى السامعين .  
فالتي ترجع إلى المخبرين أمور أربعة :  
الأول : أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين ، فلو كانوا ظانين لذلك فقط لم يفد القطع ، هكذا اعتبر هذا الشرط جماعة من أهل العلم ، منهم   القاضي أبو بكر الباقلاني     .  
وقيل : إنه غير محتاج إليه ; لأنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل ; لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين به مقلدا فيه ، أو ظانا له ، أو مجازفا ، وإن أريد وجوب علم البعض فمسلم ، ولكنه مأخوذ من شرط كونهم مستندين إلى الحس .  
الشرط الثاني : أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع ; لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه .  
قال الأستاذ  أبو منصور     : فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه ، واعتقدوه بالنظر والاستدلال ، أو عن شبهة ، فإن ذلك لا يوجب علما ضروريا ; لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية بحدوث العالم ، وتوحيد الصانع ، ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يقع لهم العلم الضروري بذلك ; لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار انتهى .  
ومن تمام هذا الشرط : أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس ، كما في أخبار النصارى بصلب  المسيح   عليه السلام ، وأيضا لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم ، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك ، لم يوثق بخبرهم ، ولا يلتفت إليه .  
الشرط الثالث : أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب ، ولا يقيد ذلك بعدد معين ، بل ضابطه : حصول العلم الضروري به ، فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر ، وإلا فلا . وهذا قول الجمهور .  
وقال قوم ، منهم   القاضي أبو الطيب الطبري     : يجب أن يكونوا أكثر من الأربعة ; لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما احتاج الحاكم إلى السؤال عن عدالتهم إذا شهدوا عنده .  
وقال  ابن السمعاني :  ذهب أصحاب   الشافعي  إلى  أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة   فما زاد ، وحكاه الأستاذ  أبو منصور  عن  الجبائي     .  
واستدل بعض أهل هذا القول بأن الخمسة عدد أولي العزم من الرسل وهم على      [ ص: 170 ] الأشهر :  نوح   وإبراهيم   وموسى   وعيسى   ومحمد   صلوات الله عليهم وسلامه .  
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف ، مع عدم تعلقه بمحل النزاع بوجه من الوجوه .  
وقيل : يشترط أن يكونوا سبعة ، بعدد أهل الكهف ، وهو باطل .  
وقيل : يشترط عشرة ، وبه قال  الإصطخري  ، واستدل على ذلك بأن ما دونها جمع قلة ، وهذا استدلال ضعيف أيضا .  
وقيل : يشترط أن يكونوا اثني عشر بعدد النقباء  لموسى   عليه السلام ; لأنهم جعلوا كذلك لتحصيل العلم بخبرهم ، وهذا استدلال ضعيف أيضا .  
وقيل : يشترط أن يكونوا عشرين ; لقوله سبحانه  إن يكن منكم عشرون صابرون   وهذا مع كونه في غاية الضعف خارج عن محل النزاع ، وإن قال المستدل به بأنهم إنما جعلوا كذلك ليفيد خبرهم العلم بإسلامهم ، فإن المقام ليس مقام إخبار ، ولا استخبار . وقد روي هذا القول عن  أبي الهذيل  وغيره من  المعتزلة      .  
وقيل : يشترط أن يكونوا أربعين كالعدد المعتبر في الجمعة ، وهذا مع كونه خارجا عن محل النزاع باطل الأصل ، فضلا عن الفرع .  
وقيل : يشترط أن يكونوا سبعين ; لقوله  واختار موسى قومه سبعين رجلا   وهذا أيضا استدلال باطل .  
وقيل : يشترط أن يكونوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، بعدد أهل بدر ، وهذا أيضا استدلال باطل ، خارج عن محل النزاع .  
وقيل : يشترط أن يكونوا خمس عشرة مائة بعدد بيعة أهل الرضوان ، وهذا أيضا باطل .  
وقيل : سبع عشرة مائة ; لأنه عدد أهل بيعة الرضوان .  
وقيل : أربع عشرة مائة ; لأنه عدد أهل بيعة الرضوان .  
 [ ص: 171 ] وقيل : يشترط أن يكونوا جميع الأمة ، كالإجماع . حكي هذا القول عن   ضرار بن عمرو  وهو باطل .  
وقال جماعة من الفقهاء : لا بد أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد ، ولا يحصرهم عدد .  
ويا لله ، العجب من جري أقلام أهل العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع ، وإنما ذكرناها ; ليعتبر بها المعتبر ، ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان ، فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد ، ويبحث عن الأدلة التي هي من شرع الله الذي شرعه لعباده ، فإنه لم يشرع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله .  
الشرط الرابع : وجود العدد المعتبر في كل الطبقات ، فيروي ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه ، وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر ، فلا يصح أن يكونوا ، أو بعضهم غير عدول ، وعلى هذا لا بد أن لا يكونوا كفارا ، ولا فساقا ، ولا وجه لهذا الاشتراط ، فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك ، بل يحصل بخبر الكفار والفساق ، والصغار المميزين ، والأحرار والعبيد ، وذلك هو المعتبر .
وقد اشترط أيضا : اختلاف أنساب أهل التواتر .  
واشترط أيضا : اختلاف أديانهم .  
واشترط أيضا : اختلاف أوطانهم .  
واشترط أيضا : كون المعصوم منهم ، كما يقول الإمامية .  
ولا وجه لشيء من هذه الشروط .  
وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين :  
فلا بد أن يكونوا عقلاء ; إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له .  
والثاني : أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر .  
والثالث : أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه .  
				
						
						
