البحث الثالث في  المحكوم به   
هو فعل المكلف ، فمتعلق الإيجاب يسمى واجبا ، ومتعلق الندب يسمى مندوبا ، ومتعلق الإباحة يسمى مباحا ، ومتعلق الكراهة يسمى مكروها ، ومتعلق التحريم يسمى حراما ، وقد تقدم حد كل واحد منها .  
 [ ص: 59 ] وفيه مسائل ثلاث :  
المسألة الأولى  
أن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنا ، فلا يجوز  التكليف بالمستحيل   عند الجمهور ، وهو الحق ، وسواء كان  مستحيلا بالنظر إلى ذاته   ، أو بالنظر إلى  امتناع تعلق قدرة المكلف به      .  
وقال جمهور  الأشاعرة   بالجواز مطلقا ، وقال جماعة منهم أنه ممتنع في الممتنع لذاته جائز في الممتنع لامتناع تعلق قدرة المكلف به .  
احتج الأولون بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان مطلوبا حصوله ، واللازم باطل ; لأن تصور ذات المستحيل مع عدم تصور ما يلزم ذاته لذاته من عدم الحصول يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته ، فيلزم قلب الحقائق .  
وبيانه : أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل ، فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين ، فتصوره إما على طريق التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال : مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض ، وإما على      [ ص: 60 ] سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم اجتماع السواد والبياض .  
وبالجملة : فلا يمكن تعلقه بماهيته ، بل باعتبار من الاعتبارات .  
والحاصل أن قبح التكليف بما لا يطاق معلوم بالضرورة فلا يحتاج إلى استدلال ، والمجوز لذلك لم يأت بما ينبغي الاشتغال بتحريره ; والتعرض لرده ، ولهذا وافق كثير من القائلين بالجواز على امتناع الوقوع ، فقالوا : يجوز التكليف بما لا يطاق مع كونه ممتنع الوقوع ، ومما يدل على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه :  لا يكلف الله نفسا إلا وسعها   لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها   ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به      .  
وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه قال عند هذه الدعوات المذكورة في القرآن قد فعلت ، وهذه الآيات ونحوها إنما تدل على عدم الوقوع ، لا على عدم الجواز ، على أن الخلاف في مجرد الجواز ، لا يترتب عليه فائدة أصلا .  
قال المثبتون للتكليف بما لا يطاق : لو لم يصح التكليف به لم يقع ، وقد وقع لأن العاصي مأمور بالإيمان ، وممتنع منه الفعل ; لأن الله قد علم أنه لا يؤمن ، ووقوع خلاف معلومه سبحانه محال ، وإلا لزم الجهل واللازم باطل ، فالملزوم مثله .  
وقالوا أيضا : بأنه لو لم يجز لم يقع ، وقد وقع ، فإنه سبحانه كلف أبا جهل بالإيمان وهو تصديق رسوله في جميع ما جاء به ، ومن جملة ما جاء به أن أبا جهل لا يصدقه ، فقد كلفه بأن يصدقه ، في أنه لا يصدقه ، وهو محال .  
وأجيب عن الدليل الأول : بأن ذلك لا يمنع تصور الوقوع لجواز وقوعه من المكلف      [ ص: 61 ] في الجملة ، وإن امتنع لغيره من علم أو غيره ، فهو في غير محل النزاع .  
وعن الثاني : بأنه لم يكلف إلا بتصديقه ، وهو ممكن في نفسه متصور وقوعه ، إلا أنه ممن علم الله أنهم لا يصدقونه ، كعلمه بالعاصين .  
هذا الكلام في التكليف بما لا يطاق أو التكليف بما علم الله أنه لا يقع ، فالإجماع منعقد على صحته ووقوعه .  
				
						
						
