[ ص: 302 ] [ ص: 303 ] الفصل الرابع : في دلالة الأمر على المرة أو التكرار
ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة ، واختاره الحنفية والآمدي وابن الحاجب والجويني والبيضاوي .
قال السبكي : وأراه رأى رأي أكثر أصحابنا ، يعني الشافعية ، واختاره أيضا من من المعتزلة أبو الحسين البصري ، قالوا جميعا جميعا : إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من مرة ، فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به ، لا أن الأمر يدل عليها بذاته . وأبو الحسن الكرخي
وقال جماعة : إأن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظا ، وعزاه الأستاذ إلى أكثر الشافعية . وقال إنه مقتضى كلام أبو إسحاق الإسفراييني وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء ، وبه قال الشافعي أبو علي الجبائي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري وجماعة من قدماء الحنفية .
وقال جماعة : أإنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان ، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ، وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان . والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني
وقال في الغزالي المستصفى : إن مرادهم من التكرار العموم ، قال أبو زرعة يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب المستوعب لزمان العمر ، وهو كذلك عند القائل ; لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة ، والنوم ، وضروريات الإنسان ، ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة [ ص: 304 ] على شرط أو صفة .
وقيل : إنها للمرة ، وتحتمل التكرار ، وهذا مروي عن . الشافعي
وقيل : بالوقف ، واختلف في تفسير معنى هذا الوقف ، فقيل : المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق ؟ ؟ وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها ، وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة ، وروي عن الجويني .
أدلة القائلين بأنه لمطلق الطلب
احتج الأولون : بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود وغيرهما ، إنما هو من المادة ، ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل ، فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط ، والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة ، لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها ، ولهذا يندفع ما احتج به من قال : إنها للمرة ، حيث قال : إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها ، وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءا من مدلول الأمر ; لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت عرفت .
واحتج الأولون أيضا : بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل ، والمرة والتكرار خارجان عن حقيقة ، فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ، ولا يتقيد بأحدهما .
واعترض واعترض على هذا : بأنه استدلال بمحل النزاع ، فإن منهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالمرة ، ومنهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالتكرار .
واحتجوا أيضا : بأن المرة والتكرار من صفات الفعل ، كالقلة والكثرة ، ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما .
واعترض واعترض على هذا : بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار ، والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا ؟ ؟ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما ، والمدعي إنما هو للدلالة ظاهرا لا نصا .
أدلة القائلين بدلالته على التكرار
واحتج القائلون بالتكرار : أنه تكرر المطلوب في النهي ، فعم فعم الأزمان فوجب [ ص: 305 ] التكرار في الأمر ; لأنهما طلب .
وأجيب : بأن هذا قياس في اللغة ، وقد تقرر بطلانه .
وأجيب : أيضا بالفرق بينهما ; لأن النهي لطلب الترك الترك ، ولا يتحقق إلا بالترك في كل الأوقات ، والأمر لطلب الإتيان بالفعل ، وهو يتحقق بوجوده مرة .
واعترض واعترض على هذا : بأنه مصادرة على المطلوب ; لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ للمخالف أن يقول هو للتكرار لا للمرة .
وأجيب عن أصل التكرار : بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به ; لأنه يستغرق جميع الأوقات ، ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر ، فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به ، وعن مصالح دينه ودنياه ، بخلاف النهي ، فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال .
واعترض واعترض على هذا : بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا ؟ ؟ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولا للصيغة ، فيجوز أن يكون اللفظ دالا على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته .
واستدل القائلون بالتكرار أيضا بأن الأمر نهى نهي عن أضداده ، وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه ، وهو - أي النهي - يمنع من المنهي عنه دائما ، فيتكرر الأمر في المأمور به إذا لو لم يتكرر ، واكتفى واكتفي بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات .
وأجيب : بأن تكرر النهي الذي تضمنه تضمنه الأمر فرع تكرر تكرر الأمر ، فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر .
واحتج من قال : بأنه يتكرر إذا كان معلقا معلقا على شرط أو صفة بأنه تكرر في نحو قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا .
وأجيب : بأن الشرط هنا علة ، فيتكرر المأمور به بتكررها ، اتفاقا ، ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته ، والنزاع إنما هو دلالة الصيغة مجردة .
قال الرازي في المحصول : أن صيغة " افعل " لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود ، فوجب أن لا تدل على التكرار ، ، بيان الأولى الأولى أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار ، كما في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة ومنها ما [ ص: 306 ] جاء على غير التكرار ، كما في الحج ، وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار ، فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار ، أو بشراء اللحم لم يعقل يعقل منه التكرار ، ولو ذمه السيد على ترك التكرار للأمة العقلاء ، ولو كرر العبد الدخول حسن حسن من السيد أن يلومه ، ويقول له : إني أمرتك بالدخول ، وقد دخلت دخلت ، فيكفي ذلك وما أمرتك بتكرار الدخول ، وقد يفيد التكرار ، فإنه إذا قال : احفظ دابتي ، فحفظها ثم أطلقها يذم يذم .
إذا ثبت هذا فنقول : الاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك المشترك بين الصورتين ، وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه ، وإذا ثبت ذلك ، وجب أن لا يدل على التكرار ; لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام ، والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار ، ولا على المرة الواحدة ، بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة ، فصارت المرة الواحدة من ضروريات الإتيان بالمأمور به ، فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه ، ثم أطال الكلام استدلالا للمذهب الأول ، ودفعا لحجج المذاهب الآخرة بما قد تقدم حاصل معناه .
وإذا عرفت عرفت جميع ما حررناه ، تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه ، وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به .
هذا إذا كان الأمر مجردا عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط .
دلالة الأمر المعلق
أما إذا كان معلقا معلقا بشيء من هذه ، فإن كان معلقا معلقا على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة ، وإثبات الحكم بثبوتها ، فإذا تكررت تكرر تكرر ، وليس التكرار مستفادا ها هنا من الأمر ، وإن كان معلقا معلقا على شرط أو صفة .
فقد ذهب كثير ممن قال : أن إن الأمر لا يفيد التكرار ، إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار ، لا من حيث الصيغة ، بل من حيث التعليق لها على ذلك الشرط ، أو الصفة ، إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك ، أما لو لم يكن فيها ما يقتضي ذلك فلا تكرار ، كقول [ ص: 307 ] السيد لعبده : اشتر اللحم إن دخلت دخلت السوق ، وقول الرجل لامرأته : إن دخلت دخلت الدار فأنت طالق ، وكذا لو قال : أعط اعط الرجل العالم درهما ، أو أو أعط اعط الرجل الفقير درهما .
والحاصل : أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه ، فإن حصلت حصل التكرار ، وإلا فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار ; لأن ذلك خارج عن محل النزاع ، وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة ، فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة .