المبحث الثالث : في . اقتضاء النهي للفساد
فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه أي لذات الفعل أو لجزئه ، وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحا ذاتيا كان النهي مقتضيامقتضيا للفساد المرادف للبطلان ، سواء كان ذلك الفعل حسيا كالزنا وشرب الخمر أو شرعيا كالصلاة والصوم . والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعا شرعا لا لغة .
وقيل : إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعا شرعا .
وقيل : إن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط ، دون المعاملات ، وبه قال أبو الحسين البصري والغزالي والراززي وابن الملاحمي والرصاص والرصاص .
واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعا شرعا ، بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات ، والأنكحة ، والبيوع ، وغيرها .
وأيضا لو لم يفسد يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة ، واللازم باطل ; لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا فكان فعله فعله كلا كلا فعل ، فامتنع النهي عنه ; لخلوه عن الحكمة ، وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى ; لفوات الزائد من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة ، وإن كانت راجحة امتنعت الصحة ; لخلوه عن المصلحة أيضا ، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي .
واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة : بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه ، وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا .
[ ص: 334 ] واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعا شرعا : بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد .
وأجيب : بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه لا لدلالة اللغة .
واستدلوا ثانيا ثانيا : بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم والنهي نقيضه ، والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضيامقتضيا للفساد .
وأجيب : بأن الأمر يقتضي الصحة شرعا شرعا ، لا لغة ، فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع ، كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع .
واستدل القائلون بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات : بأن العبادات المنهي عنها لو صحت صحت ، لكانت مأمورا بها ندبا لعموم أدلة مشروعية العبادات ، فيجتمع النقيضان ; لأن الأمر لطلب الفعل ، والنهي لطلب الترك الترك ، وهو محال .
وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات ; فلأنه لو اقتضاه في غيرها ، لكان غسل غسل النجاسة بماء مغصوب ، والذبح بسكين مغصوبة ، وطلاق البدعة ، والبيع في وقت النداء ، والوطء في زمن الحيض ، ، غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة ، وحل وحل الذبيحة ، وأحكام الطلاق ، والملك ، وأحكام الوطء ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله .
وأجيب : بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه ، بل لأمر خارج ، ولو سلم سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي ، فلا يرد النقيض بها .
وذهب جماعة من الشافعية والحنفية والمعتزلة إلى أنه لا يقتضي الفساد ، لا لغة ولا شرعا ، لا في العبادات ، ولا في المعاملات ، قالوا : لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا شرعا لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعا شرعا ، واللازم باطل ، أما الملازمة فظاهرة ، وأما بطلان اللازم ; فلأن الشارع لو قال : نهيتك عن الربا نهي تحريم ، ولو فعلت فعلت لكان البيع المنهي عنه موجبا للملك للملك لصح من غير تناقض ، لا لغة ولا شرعا .
وأجيب : بمنع الملازمة ; لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر ، ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط .
وذهبت الحنفية إلى ما لا تتوقف أن معرفته معرفته على الشرع كالزنا وشرب الخمر ، يكون النهي عنه لعينه ، ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه ، أو المجاور له فيكون النهي حينئذ عنه لغيره ، فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان [ ص: 335 ] الحائض ، وأما الفعل الشرعي ، وهو ما يتوقف معرفته على الشرع ، فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد ، ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول .
والحق أن كل نهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه ، وفساده المرادف للبطلان ، اقتضاء شرعيا ، ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك ، فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي .
ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم والمنهي عنه ليس عليه أمرنا ، فهو رد ، وما كان ردا أي مردودا كان باطلا ، وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع ، وأنه باطل لا يصح ، وهذا هو المراد بكون النهي مقتضيامقتضيا للفساد ، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : كل أمر ليس عليه أمرنا أمرنا فهو رد فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه ، وذلك هو المطلوب ، ودع عنك ما راوغوا به من الرأي . إذا أمرتكم أمرتكم بأمر فأتوا فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه
هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته ، أو لجزئه ، أما لو كان النهي عنه لوصفه ، وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه ، بل على فساد نفس الوصف .
واحتجوا لذلك بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر .
وأيضا كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض ، ولا ذبح ملك الغير ، لحرمته إجماعا ، وذهب جماعة إلى أنه يقتضي فساد الأصل ، محتجين بأن النهي ظاهر في الفساد ، من غير فرق بين كونه لذاته أو لوصفه ، وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن [ ص: 336 ] وقع ، ويكون دليلا على خلاف ما يقتضيه الظاهر .
وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه ، وليس ذلك لذاته ، ولا لجزئه ; لأنه صوم ، وهو مشروع ، بل لكونه صوما في يوم العيد وهو وصف لذات الصوم .
قال بعض المحققين من أهل الأصول : أن إن النهي عن عن الشيء لوصفه هو أن ينهيى عن الشيء مقيدا بصفة نحو : لا تصل كذا ، ولا تبع كذا ، وحاصله وحاصله ما ينهي ينهى عن وصفه ، لا ما يكون الوصف علة للنهي .
وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، فقيل : لا يقتضي الفساد ; لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين ، والظاهر أنه يضاد وجود أصله ; لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان ، كما صرح به وأتباعه ، وجماعة من أهل العلم ، فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد لا فرق بينهما . الشافعي
وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته ، ولجزئه ، ولوصف لازم ، ولوصف مجاور ، ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل ، أو في الوصف ، ولهم في ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة .
نعم ، النهي عن الشيء لذاته ، أو لجزئه الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال ، والأزمنة ، والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف والنهي عنه لوصف مفارق ، أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفا بذلك الوصف ، وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه ; لأن النهي عن إيقاعه مقيدا بهما يستلزم فساده ما داما قيدا له .