المسألة الثانية  
اتفق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين من  الأشاعرة   والمعتزلة   على أن  العلم الحاصل عن خبر التواتر   ضروري .  
وقال  الكعبي  وأبو الحسين البصري  من  المعتزلة   والدقاق  من أصحاب   الشافعي  أنه نظري .  
وقال   الغزالي  إنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج في حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه ، مع أن الواسطة حاضرة في الذهن ، وليس ضروريا بمعنى      [ ص: 19 ] أنه حاصل من غير واسطة ، كقولنا : القديم لا يكون محدثا ، والموجود لا يكون معدوما ، فإنه  [1] لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس .  
إحداهما : أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع .  
الثانية : أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة ، ولكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ، ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه .  
ومنهم من توقف في ذلك ،   كالشريف المرتضى  من  الشيعة      .  
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب فلا بد من ذكر حججها ، والتنبيه على ما فيها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .  
أما حجج القائلين بالضرورة ، فأولها وهي الأقوى ، أنه لو كان حصول العلم بخبر التواتر بطريق الاستدلال والنظر ، لما وقع ذلك لمن ليس له أهلية النظر والاستدلال ، كالصبيان والعوام . وهو واقع لهم لا محالة .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن الصبيان والعوام الذين يحصل لهم العلم بخبر التواتر ليس لهم أهلية النظر في مثل هذا العلم ، وإن لم يكونوا من أهل النظر فيما عداه من المسائل الغامضة ، كحدوث العالم ووجود الصانع ونحوه .  
وذلك لأن العلم النظري منقسم إلى ما مقدماته المفضية إليه نظرية ، فيكون خفيا ، وإلى ما مقدماته المفضية إليه ضرورية غير نظرية ، وعند ذلك فلا يمتنع أن يكون العلم بخبر التواتر من القبيل الثاني دون الأول .  
وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون العلم بأحوال المخبرين التي يتوقف عليها العلم بمخبرهم حاصلة بالضرورة للصبيان والعوام ، ويكون  [2] العلم بالنتيجة اللازمة عنها ضروريا .  
وإنما تتم الحجة المذكورة أن لو بين أن العلم بمخبرهم من قبيل ما مقدماته نظرية لا ضرورية ، وذلك مما لا سبيل إلى بيانه .  
الحجة الثانية : أن كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة وبغداد والبلاد النائية عند خبر التواتر بها ، مع أنه لا يجد من نفسه سابقة فكر ولا نظر فيما يناسبه من العلوم      [ ص: 20 ] المتقدمة عليه ، ولا في ترتيبها المفضي إليه . ولو كان نظريا لما كان كذلك .  
ولقائل أن يقول إنما يحتاج ذلك إلى الفكر والنظر في المقدمات وترتيبها ، إن لو لم يكن العلم بتلك الأمور حاصلا بالضرورة على ما بيناه في إبطال الحجة الأولى .  
وأما إذا كان حاصلا بالضرورة فلا .  
الحجة الثالثة : أن  العلم بخبر التواتر لا ينتفي بالشبهة      . وهذه هي أمارة الضرورة ، ولقائل أن يقول المنفي بالشبهة : العلم النظري الذي مقدماته نظرية أو الذي مقدماته ضرورية الأول مسلم ، والثاني ممنوع .  
الحجة الرابعة : أنه لو كان نظريا ، لأمكن الإضراب عنه ، كما في سائر النظريات ، وحيث لم يمكن ذلك ، دل على كونه ضروريا .  
ولقائل أن يقول : الذي يمكن الإضراب عنه من العلوم النظرية إنما هو العلم المفتقر إلى المقدمات النظرية .  
وأما ما لزمه  [3] من مقدمات حاصلة بالضرورة ؛ فلا .  
الحجة الخامسة : أنه لو كان نظريا ، لوقع الخلاف فيه بين العقلاء ، وحيث لم يقع إلا من معاند كما سبق كان ضروريا كالعلم بالمحسات ونحوه .  
ولقائل أن يقول : تسويغ الخلاف عقلا إنما يكون في العلوم النظرية التي مقدماتها نظرية .  
وأما مقدماتها ضرورية ؛ فلا ، كما في المحسات .  
وأما حجج القائلين بالنظر ؛ فأولها وهي ما استدل بها  أبو الحسين البصري  أن قال : الاستدلال ترتيب علوم يتوصل بها إلى علم آخر ، فكلما وقف وجوده على ترتيب فهو نظري ، والعلم الواقع بخبر التواتر كذلك فكان نظريا ، وذلك لأنا إنما نعلم ذلك ، إذا علمنا أن المخبر لم يخبر عن رأيه ، بل عن أمر محسوس ، لا لبس فيه ، وأنه لا داعي له إلى الكذب فيعلم أنه لا يكون كذبا .  
وإذا لم يكن كذبا تعين كونه صدقا .  
ومهما اختل شيء من هذه الأمور لم نعلم صحة الخبر ، ولا معنى لكونه نظريا سوى ذلك .  
 [ ص: 21 ] ولقائل أن يقول : سلمنا أن النظر عبارة عما ذكر ، لكن لا نسلم تحققه فيما نحن فيه .  
وما المانع أن يكون اتفاقهم على الكذب لا لغرض مع كونه مقدورا لهم ، فإن قال بأن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على الكذب لا لغرض ومقصود .  
قلنا : والعادة أيضا تحيل اتفاقهم على الصدق لا لغرض ومقصود ، فلم قلت بعدم الغرض في الصدق دون الكذب ، وإذا لم يكن غرض ، فليس الصدق أولى من الكذب .  
فإن قلنا : الغرض في الصدق كونه صدقا ، لكونه حسنا ولا كذلك الكذب لكونه قبيحا ، فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه .  
فإن قال : المراد إنما هو التحسين والتقبيح العرفي دون العقلي ، ولا شك أن أهل العرف يعدون الكذب قبيحا والصدق حسنا .  
قلنا : التحسين والتقبيح العرفي راجع إلى موافقة الغرض ومخالفته ، وعلى هذا فلعل الكذب من حيث هو كذب فيما أخبروا به موافق لأغراضهم دون الصدق ، فكان حسنا ، كما في اتفاقهم على الصدق في بعض ما أخبروا به . 
سلمنا أنهم لا يجمعون على الكذب إلا لغرض ، ولكن ما المانع منه ؟ فإنا قد نجد الجمع الكثير متفقين على وضع الأحاديث والأخبار لحكمة عائدة إليهم وذلك كأهل مدينة أو جيش عظيم اتفقوا على وضع خبر لا أصل له ، إما لدفع مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به ، وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به .  
وهذا مما يغلب مثله في كل عصر وزمان ، حتى إن أكثر الأخبار العامة الشائعة الواقعة في المعتاد كذلك .  
فإن قال بأن ذلك ، وإن كان واقعا ، إلا أن العادة تحيل دوامه ، وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان .  
قلنا : فإذا آل الأمر إلى التمسك بالعادة في استحالة اتفاقهم على الكذب دائما فما المانع أن يقال بأن العادة موجبة لصدق المخبرين ، إذا كانوا جمعا كثيرا ، وحصول العلم بخبرهم ، وليس القول بأن العادة تحيل اتفاقهم على الكذب ، ويلزم من ذلك الصدق أولى من أن يقال العادة توجب اتفاقهم على الصدق ، ويلزم من ذلك امتناع اتفاقهم على الكذب ، وعند ذلك فيخرج العلم بخبر التواتر عن كونه نظريا .  
 [ ص: 22 ] سلمنا أنه  لا بد في حصول العلم بخبر التواتر من حصول العلم بامتناع الكذب على المخبرين   ، ولكن لا نسلم أن ذلك يكون كافيا في كون العلم من التواتر نظريا ، إلا أن يكون العلم بالمقدمات قد علم معه أنها مرتبطة بالعلم بخبر التواتر ، وأنها الواسطة المفضية إليه ، وذلك غير مسلم الوجود فيما نحن فيه ، كما ذهب إليه   الغزالي     .  
الحجة الثانية : أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضروريا لنا لكنا عالمين بذلك العلم على ما هو عليه ، كما في سائر العلوم الضرورية .  
وذلك لأن حصول علم للإنسان وهو لا يشعر به محال .  
فإذا كان ذلك العلم ضروريا ، وجب أن يعلم كونه ضروريا وليس كذلك .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه إذا كان ضروريا لا بد وأن يعلم أنه ضروري بل جاز أن يكون أصل العلم بالمخبر بالضرورة والعلم بصفته ؛ وهي الضرورة ، غير ضروري .  
كيف وأنه معارض بأنه لو كان نظريا ، لعلمناه على صفته نظريا على ما قرروه ، وليس كذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .  
الحجة الثالثة : أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضروريا ، لما اختلف العقلاء فيه ، كما في غيره من الضروريات .  
ولقائل أن يقول : الاختلاف فيه لا يدل على أنه غير ضروري ، وإلا كان خلاف  السوفسطائية   في حصول العلم بالضروريات ، مانعا من كونها ضرورية ، وليس كذلك بالاتفاق من الخصمين هاهنا ، بل ولكان خلاف  السمنية   في حصول أصل العلم بخبر التواتر مانعا منه ، وليس كذلك .  
الحجة الرابعة : أن  خبر التواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى وخبر رسوله   ، بل هو مماثل أو أدنى ، والعلم بخبر الله ورسوله غير حاصل بالضرورة ، بل بالاستدلال فما هو مثله كذلك ، والأدنى أولى .  
ولقائل أن يقول : حاصل ما ذكر راجع إلى التمثيل ، مفيد لليقين كما عرفناه في مواضعه .  
كيف وإن العلم بخبر التواتر من حيث هو علم ، وإن كان لا يقع التفاوت بينه وبين العلم الحاصل من خبر الله والرسول ، فكذلك لا تفاوت      [ ص: 23 ] بين العلوم الضرورية المتفق على ضروريتها ، كالعلم بأن لا واسطة بين النفي والإثبات ، والعلم بأن الواحد أقل من الاثنين ونحوه ، وبين العلم الحاصل بخبر الله وخبر رسوله من حيث إن كل واحد منهما علم .  
ومع ذلك ما لزم من كون العلوم الضرورية ضرورية أن يكون العلم الحاصل من خبر الله وخبر رسوله ضروريا ، ولا من كون خبر الله ورسوله غير ضروري ، أن تكون العلوم الضرورية غير ضرورية .  
وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين وتقاوم الكلام بين الطرفين ، فقد ظهر أن الواجب إنما هو الوقف عن الجزم بأحد الأمرين .  
				
						
						
