المسألة السادسة
مذهب الأكثرين جواز
nindex.php?page=treesubj&link=21467التعبد بخبر الواحد العدل عقلا ، خلافا
للجبائي [1] وجماعة من المتكلمين .
ودليل جوازه عقلا : أنا لو فرضنا ورود الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه ، لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ، ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك .
وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال كونه كاذبا أو مخطئا .
وذلك لا يمنع من التعبد به ، بدليل اتفاقنا على التعبد بالعمل بقول المفتي ، والعمل بقول الشاهدين ، مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا به .
فإن قيل : وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع بذلك لم يلزم عنه لذاته محال ، وأنه ليس محالا لذاته عقلا ، لكنه محال عقلا باعتبار أمر خارج عن ذاته ، وذلك لأن
[ ص: 46 ] التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد ، فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به ، فإذا أخبر بخبر عن رسول الله بسفك دم ، واستحلال بضع محرم ، مع احتمال كونه كاذبا ، فلا يكون في العمل بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة ، وهو خلاف وضع الشرع .
ولهذا امتنع ورود التعبد ؛ ومعناه بخبر الفاسق والصبي ، فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعا
[2] .
وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين ،
nindex.php?page=treesubj&link=21610فالفرق بين الشهادة والخبر من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ، ولا كذلك الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد .
الثاني : أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة .
الثالث : هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع ، والشهادة شرط لا مثبت ، بخلاف خبر الواحد ، فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي .
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه ، وبيانه من جهة المنقول والمعقول .
أما المنقول ، فقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=169وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=28وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) .
وأما المعقول ، فمن أربعة أوجه :
الأول : أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول عند ظننا بصدقه ، لاحتمال كونه مصلحة ، لجاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية ، وذلك دون اقتران المعجزة بقوله محال .
الثاني : أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع ، لجاز ورود التعبد به في
[ ص: 47 ] الأصول ، وليس كذلك
[3] .
الثالث : أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن ، وهو محال .
الرابع : أن أخبار الآحاد قد تتعارض ، فلو ورد التعبد بالعمل بها ، لكان واردا بالعمل بما لا يمكن العمل به ضرورة التعارض ، وهو ممتنع على الشارع .
والجواب عن السؤال الأول من وجهين :
الأول : أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله ، وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات
[4] .
الثاني : أن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود
[5] وقول المفتي ، وما ذكروه من الفروق فباطلة ، أما الفرق الأول فمن وجهين :
الأول : أنه لا يطرد في الأخبار المتعلقة بأنواع المعاملات .
الثاني : أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه الصلح ، كالدماء والفروج
[6] .
وأما الفرق الثاني : فمن جهة أن الخبر كما يستلزم إثبات أمر شرعي ، كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك ، يستلزم إثبات أمر شرعي ، وهو وجوب القتل والقطع .
وأما الثالث : فمن جهة أنه لا فرق بين الخبر والشهادة من حيث إنه لا بد عند الشهادة من دليل يوجب العمل بها ، كما في العمل بالخبر .
وأما المعارضة بالآيات ، فجوابها من وجهين :
[ ص: 48 ] الأول : أنا نقول بموجبها ، وذلك أن العمل بخبر الواحد ووجوب اتباعه إنما هو بدليل مقطوع به ، مفيد للعلم بذلك ، وهو الإجماع .
الثاني : أنه لازم على الخصوم في اعتقادهم امتناع التعبد بخبر الواحد ، إذ هو معلوم بدليل قاطع ، بل غايته أن يكون مظنونا لهم ، فالآيات مشتركة الدلالة ، فكما تدل على امتناع اتباع خبر الواحد ، تدل على امتناع القول بعدم اتباعه ، وإذا تعارضت جهات الدلالة فيها ، امتنع العمل بها ، وسلم لنا ما ذكرناه
[7] .
وعلى هذا ، نقول بجواز ورود التعبد بقبول خبر الفاسق والصبي عقلا ، إذا غلب على الظن صدقه وإن كان ذلك غير واقع
[8] .
وما ذكروه من المعارضات العقلية ، فجوابها من وجهين ؛ أحدهما عام للكل ، والثاني خاص بكل واحد منها .
أما العام فهو أن ما ذكروه إلزاما علينا في خبر الواحد ، فهو لازم عليهم في ورود التعبد بقبول قول الشاهدين والمفتي ، فما هو جوابهم عنه يكون جوابا لنا في خبر الواحد .
وأما ما يخص كل معارضة : أما الأولى ، فالجواب عنها من وجهين .
الأول : هو أن دعوى الواحد للرسالة ونزول الوحي إليه من أندر الأشياء ، فإذا لم يقترن بدعواه ما يوجب القطع بصدقه فلا يتصور حصول الظن بصدقه
[ ص: 49 ] بل الذي يجزم به إنما هو كذبه ، ونحن وإن قلنا بجواز ورود التعبد بخبر من يغلب على الظن صدقه ، فقد لا نسلم جواز ورود
nindex.php?page=treesubj&link=21467التعبد بقول من غلب على الظن كذبه .
الثاني : هو أنا إذا جوزنا ورود التعبد بخبر الواحد فوجوب العمل به لا بد وأن يستند إلى دليل قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع ، ولا كذلك المدعي للرسالة ؛ إذا لم تقترن بقوله معجزة تدل على وجوب العمل بقوله .
فإن قيل : فلو بعث رسول ، وظهرت المعجزة القاطعة الدالة على صدقه ، ثم قال : مهما أخبركم إنسان بأن الله تعالى أرسله بشريعة ، وظننتم صدقه ، فاعملوا بقوله ، فقد استند وجوب العمل بقوله إلى دليل قاطع ، وهو قول النبي الصادق ، ومع ذلك ، فإنه لا يجوز
[9] .
قلنا : لا نسلم ، مع فرض هذا التقدير ، أنه لا يجوز الأخذ بقوله ، ثم الفرق بين الأمرين هو أن المفسدة اللازمة من قبول قول المدعي للرسالة من غير معجزة أعظم من مفسدة قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية .
وذلك ؛ لأن رئاسة النبوة أعظم من كل رئاسة ، ورتبتها أعلى من كل رتبة ، فلو ورد التعبد باتباع كل مدع للرسالة إذا غلب على الظن صدقه من غير معجزة دالة على صدقه ، فما من أحد من الناس إلا وقد يسلك المسالك المغلبة على الظن صدقه ، ويتوخى من الأفعال والأقوال ما تظهر به عدالته ، طمعا في نيل مثل هذه الرئاسة العظمى بمجرد دعواه .
وذلك يفضي إلى أن كل واحد يدعي نسخ شريعة الآخر ورفعها على قرب من الزمان ، ولا يخفى ما في ذلك من المفسدة التي لا تحقق لمثلها في خبر الواحد .
[ ص: 50 ] وأما المعارضة الثانية ، فجوابها أن المعتبر في الأصول القطع واليقين ، ولا قطع في خبر الواحد ، بخلاف الفروع ، فإنها مبنية على الظنون
[10] .
وأما المعارضة الثالثة ، فجوابها أن
nindex.php?page=treesubj&link=18626القرآن معجزة الرسول الدالة على صدقه ، ولا بد وأن يكون طريق إثباته قاطعا ، وخبر الواحد ليس بقاطع ، بخلاف أحكام الشرع فإن ما يثبت منها بخبر الواحد ظنية غير قطعية .
وأما المعارضة الرابعة ؛ فجوابها أن التعارض بين الخبرين لا يمنع من العمل بما يرجح منها .
وبتقدير عدم الترجيح مطلقا ، فقد يمكن أن يقال بالتخيير بينهما على ما هو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وبتقدير امتناع التخيير ، فغايته امتناع ورود التعبد بمثل الأخبار التي لا يمكن العمل بها ، ولا يلزم منه امتناع ورود التعبد بما أمكن العمل بمقتضاه .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ جَوَازُ
nindex.php?page=treesubj&link=21467التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَقْلًا ، خِلَافًا
لِلْجُبَّائِيِّ [1] وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ .
وَدَلِيلُ جَوَازِهِ عَقْلًا : أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُرُودَ الشَّارِعِ بِالتَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ، لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ ، وَلَا مَعْنًى لِلْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ سِوَى ذَلِكَ .
وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ فِي اتِّبَاعِهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ كَاذِبًا أَوْ مُخْطِئًا .
وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِهِ ، بِدَلِيلِ اتِّفَاقِنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمُفْتِي ، وَالْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ ، مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ عَلَى الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُحَالًا لِذَاتِهِ عَقْلًا ، لَكِنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
[ ص: 46 ] التَّكَالِيفَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ ، فَلَوْ تَعَبَّدْنَا بِاتِّبَاعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، فَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِسَفْكِ دَمٍ ، وَاسْتِحْلَالِ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ ، مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ كَاذِبًا ، فَلَا يَكُونُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ مَصْلَحَةٌ بَلْ مَحْضُ مَفْسَدَةٍ ، وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرْعِ .
وَلِهَذَا امْتُنِعَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ ؛ وَمَعْنَاهُ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِجْمَاعًا
[2] .
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21610فَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْخَبَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الصُّلْحُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ فَكَانَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي الشَّهَادَةِ أَبْعَدَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ شَرْعٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ .
الثَّالِثُ : هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الشَّهَادَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ ، وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ لَا مُثْبِتٌ ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَإِنَّهُ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ .
ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ ، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ .
أَمَّا الْمَنْقُولُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=169وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=28وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الرَّسُولِ عِنْدَ ظَنِّنَا بِصِدْقِهِ ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً ، لَجَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَذَلِكَ دُونَ اقْتِرَانِ الْمُعْجِزَةِ بِقَوْلِهِ مُحَالٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفُرُوعِ ، لَجَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي
[ ص: 47 ] الْأُصُولِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
[3] .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَجَازَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ مُحَالٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ قَدْ تَتَعَارَضُ ، فَلَوْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِالْعَمَلِ بِهَا ، لَكَانَ وَارِدًا بِالْعَمَلِ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ ضَرُورَةَ التَّعَارُضِ ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الشَّارِعِ .
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَأَفْعَالِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ
[4] .
الثَّانِي : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ
[5] وَقَوْلِ الْمُفْتِي ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ فَبَاطِلَةٌ ، أَمَّا الْفَرْقُ الْأَوَّلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الصُّلْحُ ، كَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ
[6] .
وَأَمَّا الْفَرْقُ الثَّانِي : فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَبَرَ كَمَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا بُدَّ عِنْدَ الشَّهَادَةِ مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا ، كَمَا فِي الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ .
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِالْآيَاتِ ، فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
[ ص: 48 ] الْأَوَّلُ : أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ إِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَازِمٌ عَلَى الْخُصُومِ فِي اعْتِقَادِهِمُ امْتِنَاعَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا لَهُمْ ، فَالْآيَاتُ مُشْتَرِكَةُ الدَّلَالَةِ ، فَكَمَا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّبَاعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ اتِّبَاعِهِ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ جِهَاتُ الدَّلَالَةِ فِيهَا ، امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِهَا ، وَسَلِمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ
[7] .
وَعَلَى هَذَا ، نَقُولُ بِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ عَقْلًا ، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاقِعٍ
[8] .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا عَامٌّ لِلْكُلِّ ، وَالثَّانِي خَاصٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا .
أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِلْزَامًا عَلَيْنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ وَالْمُفْتِي ، فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ عَنْهُ يَكُونُ جَوَابًا لَنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَأَمَّا مَا يَخُصُّ كُلَّ مُعَارَضَةٍ : أَمَّا الْأُولَى ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ .
الْأَوَّلُ : هُوَ أَنَّ دَعْوَى الْوَاحِدِ لِلرِّسَالَةِ وَنُزُولَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْدَرِ الْأَشْيَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَاهُ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِدْقِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ
[ ص: 49 ] بَلِ الَّذِي يُجْزَمُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ كَذِبُهُ ، وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ، فَقَدْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ وُرُودِ
nindex.php?page=treesubj&link=21467التَّعَبُّدِ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَذِبُهُ .
الثَّانِي : هُوَ أَنَّا إِذَا جَوَّزْنَا وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ ؛ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِقَوْلِهِ مُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ بُعِثَ رَسُولٌ ، وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ، ثُمَّ قَالَ : مَهْمَا أَخْبَرَكُمْ إِنْسَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِشَرِيعَةٍ ، وَظَنَنْتُمْ صِدْقَهُ ، فَاعْمَلُوا بِقَوْلِهِ ، فَقَدِ اسْتَنَدَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ إِلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ الصَّادِقِ ، وَمَعَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ
[9] .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ، مَعَ فَرْضِ هَذَا التَّقْدِيرِ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ اللَّازِمَةَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رِئَاسَةَ النُّبُوَّةِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ رِئَاسَةٍ ، وَرُتْبَتَهَا أَعْلَى مِنْ كُلِّ رُتْبَةٍ ، فَلَوْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِاتِّبَاعِ كُلِّ مُدَّعٍ لِلرِّسَالَةِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَقَدْ يَسَلُكُ الْمَسَالِكَ الْمُغَلِّبَةَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَهُ ، وَيَتَوَخَّى مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ مَا تَظْهَرُ بِهِ عَدَالَتُهُ ، طَمَعًا فِي نَيْلِ مِثْلِ هَذِهِ الرِّئَاسَةِ الْعُظْمَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ .
وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدَّعِي نَسْخَ شَرِيعَةِ الْآخَرِ وَرَفْعَهَا عَلَى قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لَا تَحَقُّقَ لِمِثْلِهَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ .
[ ص: 50 ] وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّانِيَةُ ، فَجَوَابُهَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ ، وَلَا قَطْعَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ ، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ ، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّنُونِ
[10] .
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّالِثَةُ ، فَجَوَابُهَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18626الْقُرْآنَ مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ قَاطِعًا ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِقَاطِعٍ ، بِخِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ مِنْهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ظَنِّيَّةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ .
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الرَّابِعَةُ ؛ فَجَوَابُهَا أَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا يُرَجَّحُ مِنْهَا .
وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ .
وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ التَّخْيِيرِ ، فَغَايَتُهُ امْتِنَاعُ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِمِثْلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ .