[ ص: 227 ] المسألة الرابعة
اختلف القائلون بالعموم في
nindex.php?page=treesubj&link=28098العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو مجاز ؟ على ثمانية مذاهب :
فمنهم من قال : إنه يبقى حقيقة مطلقا على أي وجه كان المخصص ، وهو مذهب الحنابلة وكثير من أصحابنا .
ومنهم من قال : إنه يبقى مجازا كيفما كان المخصص ، وهو مذهب كثير من أصحابنا ، وإليه ميل
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي وكثير من
المعتزلة وأصحاب
أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16739كعيسى بن أبان وغيره .
ومن أصحاب
أبي حنيفة من قال : إن كان الباقي جمعا فهو حقيقة وإلا فلا .
وهو اختيار
أبي بكر الرازي .
ومنهم من قال : إن خص بدليل لفظي فهو حقيقة كيفما كان المخصص متصلا أو منفصلا وإلا فهو مجاز .
ومنهم من قال : إن خص بدليل متصل من شرط كقوله : من دخل داري وأكرمني أكرمته ، أو استثناء كقوله : من دخل داري أكرمته سوى
بني تميم فحقيقة وإلا فمجاز ، وهو اختيار
القاضي أبي بكر [1] .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14959القاضي عبد الجبار من
المعتزلة : إن كان مخصصه شرطا كما سبق تمثيله أو تقييدا بصفة كقوله : من دخل داري عالما أكرمته فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء ، وقال
أبو الحسين البصري : إن كانت القرينة المخصصة مستقلة بنفسها وسواء كانت عقلية كالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب في العبادات ، أو لفظية كقول المتكلم بالعموم : أردت به البعض الفلاني فهو مجاز وإلا فهو حقيقة ، وسواء كانت القرينة شرطا أو صفة مقيدة أو استثناء .
ومن الناس من قال : إنه حقيقة في تناول اللفظ له ، مجاز في الاقتصار عليه .
[ ص: 228 ] والمختار تفريعا على القول بالعموم أنه يكون مجازا في المستبقي واحدا كان أو جماعة ، وسواء كان المخصص متصلا أو منفصلا عقليا أو لفظيا باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة .
ودليل ذلك أنه إذا كان اللفظ حقيقة في الاستغراق والهيئة الاجتماعية من كل الجنس ، فصرفه إلى البعض بالقرينة كيفما كانت القرينة .
أما أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، لا جائز أن يقال بكونه حقيقة فيه ، وإلا كان اللفظ مشتركا بينه وبين الاستغراق ، ضرورة اختلاف معنييهما بالبعضية والكلية ، وعدم اشتراكهما في معنى جامع يكون مدلولا للفظ ،
[2] والمشترك لا يكون ظاهرا بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض
[3] ، وهو خلاف مذهب القائلين بالعموم فلم يبق إلا أن يكون مجازا .
فإن قيل : ما المانع أن يكون حقيقة فيهما باعتبار اشتراكهما في الجنسية على وجه لا يكون مشتركا
[4] ولا مجازا في أحدهما ؟ والذي يدل على كونه حقيقة في البعض المستبقي أن اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يكون مؤثرا فيه ، سلمنا أنه ليس حقيقة في الجنس المشترك ، ولكن ما المانع من كون اللفظ بمطلقه حقيقة في الاستغراق ؟ ومع القرينة يكون حقيقة في البعض ، سلمنا امتناع بقائه حقيقة فيه ، ولكن متى إذا كان دليل التخصيص لفظيا متصلا أو منفصلا ، الأول ممنوع والثاني مسلم .
وذلك لأنه إذا كان الدليل المخصص لفظيا متصلا ، وسواء كان شرطا أو تقييدا بصفة أو استثناء ، فإن الكلام يصير بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر مستقلا موضوعا للبعض ، فإنه إذا قال : من دخل داري أكرمته كان له معنى ، فإذا زاد شرطا أو صفة أو استثناء كقوله : من دخل داري وأكرمني أكرمته ، ومن دخل داري عالما أكرمته ، أو من دخل داري أكرمته
[ ص: 229 ] إلا
بني تميم تغير ذلك المعنى الأول ، وصار معنى الشرط الداخل المكرم ، ومعنى الصفة الداخل العالم ، ومعنى الاستثناء الداخل ممن ليس من
بني تميم ، فكان اللفظ والمعنى مختلفا ، وكل واحد من اللفظين حقيقة في معناه ، وصار هذا بمنزلة قول القائل : مسلم فإن له معنى ، فإذا زاد فيه الألف واللام فقال المسلم ، أو زاد فيه الواو والنون فقال مسلمون ، فإن اللفظ بإلحاق الزيادة فيه صار دالا على معنى زائد بجهة الحقيقة ، لا بجهة التجوز ، فكذلك فيما نحن فيه .
وعلى هذا نقول إن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=14فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) إن مجموع هذا القول دل على المستبقي بجهة الحقيقة ، وهو قائم مقام قوله : فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما ، هذا كله فيما إذا كان الاستثناء والمستثنى في كلام متكلم واحد ، وأما لو قال الله تعالى ( اقتلوا المشركين ) فقال الرسول عقيبه : إلا زيدا فهذا مما اختلف فيه أنه كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا أم لا .
فمن قال بكونه متصلا نظر إلى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون في تشريع الأحكام بغير الوحي ، فكان في البيان كما لو كان ذلك بكلام الله تعالى .
ومنهم من أجراه مجرى الدليل المنفصل دون المتصل ، ولهذا فإنه لو قال الباري تعالى : زيد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قام لا يكون خبرا صادرا من الله تعالى ، لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد ، ولعل هذا هو الأظهر .
سلمنا أنه يكون مجازا في جميع الصور إلا في الشرط ، وذلك لأنه إذا قال : أكرم
بني تميم إن دخلوا داري ، فإن الشرط لم يخرج شيئا مما تناوله اللفظ من أعيان الأشخاص ، بل هو باق بحاله .
وإنما أخرج حالا من الأحوال ، وهي حالة عدم دخول الدار بخلاف الاستثناء وغيره فلا يكون مجازا .
سلمنا التجوز مطلقا ، لكن متى إذا كان المستبقي منحصر ، أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم .
[ ص: 230 ] والجواب عن السؤال الأول أن البعض ، وإن كان من جنس الكل إلا أن
nindex.php?page=treesubj&link=21133اللفظ العام حقيقة في استغراق الجنس من حيث هو كذلك ، لا في الجنس مطلقا ولهذا تعذر حمله على البعض ، وإن كان من الجنس إلا بقرينة باتفاق القائلين بالعموم ، ومعنى متحقق في المستبقي فلا يكون حقيقة فيه .
قولهم : إن اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، قلنا بانفراده أو مع المخصص
[5] الخارج ، الأول ممنوع والثاني مسلم .
وعلى هذا فلا يلزم مع التخصيص أن يبقى حقيقة فيه ، كيف ويلزم عليه الواحد ؟ فإن اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص وبعد التخصيص ، فهو مجاز فيه بالاتفاق .
وعن السؤال الثاني جوابان : الأول : أن ذلك مما يرفع جميع المجازات عن الكلام ، فإنه ما من مجاز إلا ويمكن أن يقال : إنه مع القرينة حقيقة في مدلوله ، وبدون القرينة حقيقة في غيره
[6] .
الثاني : أنه لو كان كما ذكروه لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة المخصصة له بالبعض استعمالا له في غير الحقيقة ، وصارفا له عن الحقيقة ، وهو خلاف إجماع القائلين بالعموم .
وعن السؤال الثالث أن دلالة اللفظ عند اقترانه بالدليل اللفظي المتصل لا يخرج عن حقيقته وصورته بما اقترن به ، وإلا كان كل مقترن بشيء خارجا عن حقيقته .
ويلزم من ذلك خروج الجسم عن حقيقته من حيث هو جسم عند اتصافه بالبياض أو السواد ، وكذلك في كل موصوف بصفة ، وهو محال .
وإذا كان باقيا على حقيقته فمعناه لا يكون مختلفا ، بل غايته أن يصير مصروفا عن معناه بالقرينة المقترنة به ، وهو التجوز بعينه .
وعلى هذا فألفاظ الآية المذكورة في قصة
نوح الألف للألف والخمسون للخمسين ، وإلا للرفع ، ومعرفة ما بقي حاصلة بالحساب .
وخرج عن هذا زيادة الألف واللام في المسلم ، والواو والنون في
[ ص: 231 ] المسلمين ، فإنها لا معنى لها في نفسها دون المزيد عليه ، ولا سبيل إلى إهمالها .
فلذلك كانت موجبة للتعيين في الوضع .
فإن قيل : لو قال : لا إله ، فإنه بمطلقه يكون كفرا ، ولو اقترن به الاستثناء وهو قوله : إلا الله كان إيمانا ، وكذلك لو قال لزوجته : أنت طالق كان بمطلقه تنجيزا للطلاق ، ولو اقترن به الشرط وهو قوله إن دخلت الدار كان تعليقا مع أن الاستثناء والشرط له معنى ، ولولا تغير الدلالة والوضع لما كان كذلك .
قلنا : لا نسلم التغيير في الوضع ، بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه في جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة كيف وإنه لو صح ما ذكروه لم يكن ذلك من باب تخصيص العموم الذي نحن فيه ؟
وعن السؤال الرابع من وجهين : الأول : أنه مهما أخرج الشرط بعض الأحوال فيلزم منه إخراج بعض الأعيان ، وذلك أنه إذا قال : أكرم
بني تميم إن دخلوا داري فقد أخرج من لم يدخل الدار ، الثاني : أنه وإن لم يخرج شيئا من الأعيان ، ولكن لا نسلم انحصار التجوز في إخراج الأعيان ، وما المانع من القول بالتجوز في إخراج بعض الأحوال مع عموم اللفظ بالنسبة إليها ؟
وعن السؤال الخامس لا نسلم أن المستبقي وإن كان جمعا غير منحصر أنه يكون عاما إذا لم يكن مستغرقا للجنس ، وإن سلمنا عمومه ، غير أنه بعض مدلول اللفظ العام المخصص ، وإذا كان بعضا منه لزم أن يكون صرف اللفظ إليه مجازا لما ذكرناه من الدليل .
[ ص: 227 ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28098الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي أَوْ مَجَازٌ ؟ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ :
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً مُطْلَقًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْمُخَصَّصُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَبْقَى مَجَازًا كَيْفَمَا كَانَ الْمُخَصَّصُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=16739كَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ .
وَمِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ : إِنْ كَانَ الْبَاقِي جَمْعًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَلَا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ
أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ فَهُوَ حَقِيقَةٌ كَيْفَمَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ مِنْ شَرْطٍ كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ دَارِي وَأَكْرَمَنِي أَكْرَمْتُهُ ، أَوِ اسْتِثْنَاءٍ كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ سِوَى
بَنِي تَمِيمٍ فَحَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَمَجَازٌ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ [1] .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14959الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ : إِنْ كَانَ مُخَصَّصَهُ شَرْطًا كَمَا سَبَقَ تَمْثِيلُهُ أَوْ تَقْيِيدًا بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ دَارِي عَالِمًا أَكْرَمْتُهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ حَتَّى فِي الِاسْتِثْنَاءِ ، وَقَالَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ : إِنْ كَانَتِ الْقَرِينَةُ الْمُخَصِّصَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَقْلِيَّةً كَالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَادِرِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْخِطَابِ فِي الْعِبَادَاتِ ، أَوْ لَفْظِيَّةً كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْعُمُومِ : أَرَدْتُ بِهِ الْبَعْضَ الْفُلَانِيَّ فَهُوَ مَجَازٌ وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْقَرِينَةُ شَرْطًا أَوْ صِفَةً مُقَيِّدَةً أَوِ اسْتِثْنَاءً .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ ، مَجَازٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ .
[ ص: 228 ] وَالْمُخْتَارُ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي الْمُسْتَبْقِي وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُخَصَّصُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا عَقْلِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ .
وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ وَالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ كُلِّ الْجِنْسِ ، فَصَرْفُهُ إِلَى الْبَعْضِ بِالْقَرِينَةِ كَيْفَمَا كَانَتِ الْقَرِينَةُ .
أَمَّا أَنْ يَكُونَ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ ، وَإِلَّا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ ، ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا بِالْبَعْضِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ ، وَعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنًى جَامِعٍ يَكُونُ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ ،
[2] وَالْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بِلَفْظِهِ فِي بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ
[3] ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجِنْسِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا
[4] وَلَا مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا ؟ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ الْمُسْتَبْقِي أَنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ ، فَخُرُوجُ غَيْرِهِ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ بِمُطْلَقِهِ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ ؟ وَمَعَ الْقَرِينَةِ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ ، سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ بَقَائِهِ حَقِيقَةً فِيهِ ، وَلَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ لَفْظِيًّا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الْمُخَصَّصُ لَفْظِيًّا مُتَّصِلًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا أَوْ تَقْيِيدًا بِصِفَةٍ أَوِ اسْتِثْنَاءً ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَصِيرُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ كَلَامًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا مَوْضُوعًا لِلْبَعْضِ ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ كَانَ لَهُ مَعْنًى ، فَإِذَا زَادَ شَرْطًا أَوْ صِفَةً أَوِ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ دَارِي وَأَكْرَمَنِي أَكْرَمْتُهُ ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِي عَالِمًا أَكْرَمْتُهُ ، أَوْ مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ
[ ص: 229 ] إِلَّا
بَنِي تَمِيمٍ تَغَيَّرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ ، وَصَارَ مَعْنَى الشَّرْطِ الدَّاخِلَ الْمُكَرَّمَ ، وَمَعْنَى الصِّفَةِ الدَّاخِلَ الْعَالِمَ ، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ ، فَكَانَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ : مُسْلِمٌ فَإِنَّ لَهُ مَعْنًى ، فَإِذَا زَادَ فِيهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَقَالَ الْمُسْلِمُ ، أَوْ زَادَ فِيهِ الْوَاوَ وَالنُّونَ فَقَالَ مُسْلِمُونَ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِإِلْحَاقِ الزِّيَادَةِ فِيهِ صَارَ دَالًّا عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ ، لَا بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=14فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ) إِنَّ مَجْمُوعَ هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ عَلَى الْمُسْتَبْقِي بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ ، وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ : فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالْمُسْتَثْنَى فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) فَقَالَ الرَّسُولُ عَقِيبَهُ : إِلَّا زَيْدًا فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ كَالْمُتَّصِلِ الَّذِي لَا يَجْعَلُ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ مَجَازًا أَمْ لَا .
فَمَنْ قَالَ بِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا نَظَرَ إِلَى أَنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ بِغَيْرِ الْوَحْيِ ، فَكَانَ فِي الْبَيَانِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ دُونَ الْمُتَّصِلِ ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَارِي تَعَالَى : زَيْدٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَامَ لَا يَكُونُ خَبَرًا صَادِرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إِلَّا فِي الشَّرْطِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ : أُكْرِمُ
بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي ، فَإِنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِمَّا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ أَعْيَانِ الْأَشْخَاصِ ، بَلْ هُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ .
وَإِنَّمَا أَخْرَجَ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ ، وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا .
سَلَّمْنَا التَّجَوُّزَ مُطْلَقًا ، لَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَ الْمُسْتَبْقِي مُنْحَصِرٌ ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِيَ مُسَلَّمٌ .
[ ص: 230 ] وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْبَعْضَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكُلِّ إِلَّا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21133اللَّفْظَ الْعَامَّ حَقِيقَةٌ فِي اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ ، لَا فِي الْجِنْسِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجِنْسِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ ، وَمَعْنَى مُتَحَقِّقٍ فِي الْمُسْتَبْقِي فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ .
قَوْلُهُمْ : إِنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ ، قُلْنَا بِانْفِرَادِهِ أَوْ مَعَ الْمُخَصَّصِ
[5] الْخَارِجِ ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ .
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مَعَ التَّخْصِيصِ أَنْ يَبْقَى حَقِيقَةً فِيهِ ، كَيْفَ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ ؟ فَإِنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ ، فَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي جَوَابَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْمَجَازَاتِ عَنِ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَجَازٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِ ، وَبِدُونِ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي غَيْرِهِ
[6] .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِالْقَرِينَةِ الْمُخَصِّصَةِ لَهُ بِالْبَعْضِ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ الْحَقِيقَةِ ، وَصَارِفًا لَهُ عَنِ الْحَقِيقَةِ ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ .
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ الْمُتَّصِلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصُورَتِهِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ ، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَتِهِ .
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الْجِسْمِ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِسْمٌ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْبَيَاضِ أَوِ السَّوَادِ ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ ، وَهُوَ مُحَالٌ .
وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ مُخْتَلِفًا ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَصِيرَ مَصْرُوفًا عَنْ مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِ ، وَهُوَ التَّجَوُّزُ بِعَيْنِهِ .
وَعَلَى هَذَا فَأَلْفَاظُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ
نُوحٍ الْأَلْفُ لِلْأَلْفِ وَالْخَمْسُونَ لِلْخَمْسِينَ ، وَإِلَّا لِلرَّفْعِ ، وَمَعْرِفَةِ مَا بَقِيَ حَاصِلَةٌ بِالْحِسَابِ .
وَخَرَجَ عَنْ هَذَا زِيَادَةُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْمُسْلِمِ ، وَالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي
[ ص: 231 ] الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهَا لَا مَعْنًى لَهَا فِي نَفْسِهَا دُونَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا .
فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّعْيِينِ فِي الْوَضْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ : لَا إِلَهَ ، فَإِنَّهُ بِمُطْلَقِهِ يَكُونُ كُفْرًا ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِلَّا اللَّهُ كَانَ إِيمَانًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ كَانَ بِمُطْلَقِهِ تَنْجِيزًا لِلطَّلَاقِ ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الشَّرْطُ وَهُوَ قَوْلُهُ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ كَانَ تَعْلِيقًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ لَهُ مَعْنًى ، وَلَوْلَا تَغَيُّرُ الدَّلَالَةِ وَالْوَضْعِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ التَّغْيِيرَ فِي الْوَضْعِ ، بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ فِي جِهَةِ إِطْلَاقِهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ ؟
وَعَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَهْمَا أَخْرَجَ الشَّرْطُ بَعْضَ الْأَحْوَالِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَكْرِمْ
بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي فَقَدْ أَخْرَجَ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ ، الثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنَ الْأَعْيَانِ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ التَّجَوُّزِ فِي إِخْرَاجِ الْأَعْيَانِ ، وَمَا الْمَانِعُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّجَوُّزِ فِي إِخْرَاجِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا ؟
وَعَنِ السُّؤَالِ الْخَامِسِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَبْقِيَ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا غَيْرَ مُنْحَصِرٍ أَنَّهُ يَكُونُ عَامًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا لِلْجِنْسِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا عُمُومَهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ بَعْضُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخَصَّصِ ، وَإِذَا كَانَ بَعْضًا مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَيْهِ مَجَازًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ .