[ ص: 251 ] المسألة العاشرة
الفعل المتعدي إلى مفعول كقوله : والله لا آكل أو إن أكلت فأنت طالق هل يجري مجرى العموم بالنسبة إلى مفعولاته أم لا ؟ اختلفوا فيه فأثبته أصحابنا
والقاضي أبو يوسف ونفاه
أبو حنيفة .
وتظهر فائدة الخلاف في أنه لو نوى به مأكولا معينا قبل عند أصحابنا ، حتى إنه لا يحنث بأكل غيره بناء على عموم لفظه له وقبول العام للتخصيص ببعض مدلولاته ، ولا يقبل عند
أبي حنيفة تخصيصه به ، لأن التخصيص من توابع العموم ولا عموم .
حجة أصحابنا ، أما في طرف النفي ، وذلك عندما إذا قال : والله لا أكلت ، أن قوله أكلت فعل يتعدى إلى المأكول ، ويدل عليه بوضعه وصيغته ، فإذا قال : لا أكلت فهو ناف لحقيقة الأكل من حيث هو أكل ، ويلزم من ذلك نفيه بالنسبة إلى كل مأكول ، وإلا لما كان نافيا لحقيقة الأكل من حيث هو أكل ، وهو خلاف دلالة لفظه .
وإذا كان لفظه دالا على نفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول ، فقد ثبت عموم لفظه بالنسبة إلى كل مأكول ، فكان قابلا للتخصيص .
وأما في طرف الإثبات ، وهو ما إذا قال : إن أكلت فأنت طالق ، فلا يخفى أن وقوع الأكل المطلق يستدعي مأكولا مطلقا ، لكونه متعديا إليه ، والمطلق ما كان شائعا في جنس المقيدات الداخلة تحته ، فكان صالحا لتفسيره وتقييده بأي منها كان ، ولهذا لو قال الشارع : اعتق رقبة صح تقييدها بالرقبة المؤمنة ، ولو لم يكن للمطلق على المقيد دلالة لما صح تفسيره به .
فإن قيل : يلزم على ما ذكرتموه الزمان والمكان ، فإن حقيقة الأكل لا تتم نفيا ولا إثباتا إلا بالنسبة إليهما ، ومع ذلك لو نوى بلفظه مكانا معينا أو زمانا معينا ، فإنه لا يقبل .
قلنا : لا نسلم ذلك ، وإن سلمنا فالفرق حاصل .
، وذلك لأن الفعل ؛ وهو قوله : أكلت غير متعد إلى الزمان والمكان ، بل هو من ضرورات الفعل فلم يكن اللفظ
[ ص: 252 ] دالا عليه بوضعه ، فلذلك لم يقبل تخصيص لفظه به لأن التخصيص عبارة عن حمل اللفظ على بعض مدلولاته ، لا على غير مدلولاته بخلاف المأكول على ما سبق
[1] .
فإن قيل : إذا قال : إن أكلت فأنت طالق فالأكل الذي هو مدلول لفظه كلي مطلق ، والمطلق لا إشعار له بالمخصص فلا يصح تفسيره به .
قلنا : المحلوف عليه ليس هو المفهوم من الأكل الكلي الذي لا وجود له إلا في الأذهان ، وإلا لما حنث بالأكل الخاص إذ عليه ، وهو خلاف الإجماع ، فلم يبق إلا أن يكون المراد به أكلا مقيدا من جملة الأكلات المقيدة التي يمكن وقوعها في الأعيان أيا منها كان ، وإذا كان لفظه لا إشعار له بغير المقيد صح تفسيره به ، كما إذا قال : اعتق رقبة ، وفسره بالرقبة المؤمنة كما سبق .
[ ص: 251 ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا آكُلُ أَوْ إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْعُولَاتِهِ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا
وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَنَفَاهُ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ لَوْ نَوَى بِهِ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا قُبِلَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ لَهُ وَقَبُولِ الْعَامِّ لِلتَّخْصِيصِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ تَخْصِيصُهُ بِهِ ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ تَوَابِعِ الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ .
حُجَّةُ أَصْحَابِنَا ، أَمَّا فِي طَرَفِ النَّفْيِ ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ ، أَنَّ قَوْلَهُ أَكَلْتُ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْكُولِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ وَصِيغَتِهِ ، فَإِذَا قَالَ : لَا أَكَلْتُ فَهُوَ نَافٍ لِحَقِيقَةِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ نَافِيًا لِحَقِيقَةِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ ، وَهُوَ خِلَافُ دَلَالَةِ لَفْظِهِ .
وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَى نَفْيِ حَقِيقَةِ الْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ ، فَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ لَفْظِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ ، فَكَانَ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ .
وَأَمَّا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ : إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ الْأَكْلِ الْمُطْلَقِ يَسْتَدْعِي مَأْكُولًا مُطْلَقًا ، لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ ، وَالْمُطْلَقُ مَا كَانَ شَائِعًا فِي جِنْسِ الْمُقَيَّدَاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ ، فَكَانَ صَالِحًا لِتَفْسِيرِهِ وَتَقْيِيدِهِ بِأَيٍّ مِنْهَا كَانَ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ : اعْتِقْ رَقَبَةً صَحَّ تَقْيِيدُهَا بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ دَلَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ لَا تَتِمُّ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَكَانًا مُعَيَّنًا أَوْ زَمَانًا مُعَيَّنًا ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ حَاصِلٌ .
، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَكَلْتُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ
[ ص: 252 ] دَالًّا عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلُ تَخْصِيصُ لَفْظِهِ بِهِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ ، لَا عَلَى غَيْرِ مَدْلُولَاتِهِ بِخِلَافِ الْمَأْكُولِ عَلَى مَا سَبَقَ
[1] .
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا قَالَ : إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْأَكْلُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ لَفْظِهِ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ ، وَالْمُطْلَقُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْمُخَصَّصِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ .
قُلْنَا : الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْأَكْلِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ ، وَإِلَّا لَمَا حَنِثَ بِالْأَكْلِ الْخَاصِّ إِذْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَكْلًا مُقَيَّدًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَكَلَاتِ الْمُقَيَّدَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِي الْأَعْيَانِ أَيًّا مِنْهَا كَانَ ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِ الْمُقَيَّدِ صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ ، كَمَا إِذَا قَالَ : اعْتِقْ رَقَبَةً ، وَفَسَّرَهُ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ كَمَا سَبَقَ .