وإذا عرف معنى المفهوم ، فهو ينقسم إلى ما يسمى ، وإلى ما يسمى مفهوم المخالفة . مفهوم الموافقة
أما مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقا لمدلوله في محل النطق ، ويسمى أيضا فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، والمراد به معنى الخطاب ، ومنه قوله تعالى : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) أي في معناه .
وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة ، ومنه يقال " لحن فلان بلحنه " إذا تكلم بلغته ، وقد يطلق ويراد به الفطنة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض " ( أي : أفطن ) ، وقد يطلق ويراد به الخروج عن ناحية الصواب ، ويدخل فيه إزالة الإعراب عن جهة الصواب .
[ ص: 67 ] ومثاله تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق ، وكذلك دلالة قوله تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) على تحريم إتلاف أموالهم ، وكدلالة قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) على المقابلة فيما زاد على ذلك .
وكدلالة قوله تعالى ( الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ) على تأدية ما دون القنطار ، وعدم تأدية ما فوق الدينار ، إلى غير ذلك من النظائر .
والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى ، وبالأعلى على الأدنى ، ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق ، وإنما يكون كذلك أن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام ، وعرف أنه أشد مناسبة واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق ، وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين ، وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف ، فكان بالتحريم أولى .
وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك ، لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب العنيف ، ولهذا فإنه ينتظم من الملك أن يأمر الجلاد بقتل والده إذا استيقن منازعته له في ملكه ، وينهاه عن التأفيف ، حيث كان المقصود من الأمر بالقتل إنما هو دفع محذور المنازعة في الملك ، وإن كان القتل أشد في دفعه من التأفيف ، ولذلك لم يلزم من إباحة أعلى المحذورين إباحة أدناهما ، ولا من تحريم أدناهما تحريم أعلاهما .
وهذا مما اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال إنه ليس بحجة ، ودليل كونه حجة أنه إذا قال السيد لعبده " لا تعط زيدا حبة ، ولا تقل له أف ، ولا تظلمه بذرة ، ولا تعبس في وجهه " فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة ، وامتناع الشتم والضرب ، وامتناع الظلم بالدينار [ ص: 68 ] وما زاد ، وامتناع أذيته بما فوق التعبيس من هجر الكلام وغيره ، ولذلك كان المفهوم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " حفظ ما التقط من الدنانير ، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - ، في الغنيمة " احفظ عفاصها ووكاءها " أداء الرحال والنقود وغيرها ، ومن قوله " أدوا الخيط والمخيط من سرق عصا مسلم فعليه ردها " رد ما زاد على ذلك .
وكذلك لو حلف أنه لا يأكل لفلان لقمة ، ولا يشرب من مائه جرعة ، كان ذلك موجبا لامتناعه من أكل ما زاد على اللقمة كالرغيف وشرب ما زاد على الجرعة إلى نظائره غير أن الخلاف واقع في أن مستند الحكم في محل السكوت ، هل هو فحوى الدلالة اللفظية ، أو الدلالة القياسية .
وقد احتج القائلون بالفحوى بأن العرب إنما وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في التأكيد للحكم في محل السكوت .
وأنها أفصح من التصريح بالحكم في محل السكوت .
ولهذا فإنهم إذا قصدوا المبالغة في كون أحد الفرسين سابقا للآخر ، قالوا ( هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس ) وكان ذلك عندهم أبلغ من قولهم ( هذا الفرس سابق لهذا الفرس ) وكذلك إذا قالوا : " فلان يأسف بشم رائحة مطبخه " فإنه أفصح عندهم وأبلغ من قولهم " فلان لا يطعم ولا يسقي " .
واحتج القائلون بكونه قياسا أنا لو قطعنا النظر عن المعنى الذي سيق له الكلام من كف الأذى عن الوالدين ، وعن كونه في الشتم والضرب أشد منه في التأفيف لما قضي بتحريم الشتم والضرب إجماعا ، ولما سبق من جواز أمر الملك للجلاد بقتل والده والنهي عن التأفيف له ، فالتأفيف أصل ، والشتم والضرب فرع ، ودفع الأذى علة ، والتحريم حكم ولا معنى للقياس إلا هذا .
وسموا ذلك قياسا جليا نظرا إلى أن الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير .
والأشبه إنما هو المذهب الأول ، وهو الإسناد إلى فحوى الدلالة اللفظية .
وما قيل من أنه لا بد من فهم المعنى ، وكونه في محل السكوت أولى بالحكم في محل النطق ، فهو شرط تحقق الفحوى ، ولا مناقضة بينه وبين الفحوى ، ويدل على أنه ثابت بالفحوى لا بالقياس أمران :
[ ص: 69 ] الأول : أن القياس لا يشترط فيه أن يكون المعنى المناسب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعا ، وهذا النوع من الاستدلال لا يتم دونه ، فلا يكون قياسا .
الثاني : أن الأصل في القياس لا يكون مندرجا في الفرع وجزءا منه إجماعا .
وهذا النوع من الاستدلال قد يكون ما تخيل أصلا فيه جزء مما تخيل فرعا ، وذلك كما لو قال السيد لعبده : " لا تعط لفلان حبة " فإنه يدل على امتناع إعطاء الدينار ، وما زاد عليه ، والحبة المنصوصة تكون داخلة فيه .
وكذلك قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) فإنه يدل على رؤية ما زاد على الذرة ، والذرة تكون داخلة فيه ، إلى نظائره .
ولهذا ، فإن كل من خالف في القياس مطلقا وافق على هذا النوع من الدلالة سوى أهل الظاهر ، ولو كان قياسا لما كان كذلك .
وعلى كل تقدير ، فهو منقسم إلى قطعي وظني .
أما القطعي : فكما ذكرنا من آية التأفيف حيث إنا علمنا من سياق الآية أن حكمة تحريم التأفيف إنما هو دفع الأذى عن الوالدين ، وأن الأذى في الشتم والضرب أشد .
وأما في قوله تعالى : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) فإنه وإن دل على وجوب الكفارة في القتل العمد ، لكونه أولى بالمؤاخذة كما يقوله ، غير أنه ليس بقطعي لإمكان أن لا تكون الكفارة في القتل الخطأ موجبة بطريق المؤاخذة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الشافعي " والمراد به رفع المؤاخذة ، بل نظرا للخاطئ بإيجاب ما يكفر ذنبه في تقصيره ، ومن ذلك سميت كفارة ، وجناية المتعمد فوق جناية الخاطئ . رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وعند ذلك فلا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى الجنايتين أن تكون رافعة لإثم أعلاهما .