[ ص: 88 ] المسألة الثانية  
اختلفوا في  الحكم المعلق على شيء بكلمة ( إن ) هل الحكم على العدم عند عدم ذلك الشيء   أولا ؟ . فذهب  ابن سريج  والهراسي  [1] من أصحاب   الشافعي  والكرخي  وأبو الحسين البصري  إلى أن الحكم على العدم مع عدم ذلك الشرط ، وذهب   القاضي عبد الجبار  وأبو عبد الله البصري  إلى أن الحكم لا يكون على العدم عند عدم الشرط ، وهو المختار .  
وبيانه أن ما علق عليه الحكم بكلمة ( إن ) ، إما أن لا يكون شرطا للحكم أو يكون شرطا : فإن كان الأول ، فلا يلزم من نفيه نفي الحكم ، وإن كان شرطا فلا يخلو ، إما أن يكون من لوازم الشرط انتفاء الحكم المعلق عليه مطلقا عند انتفائه ، و لا يكون لازما له ، الأول محال ، وإلا لامتنع وجود القصر المعلق على الخوف بكلمة ( إن ) في قوله تعالى : (  فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا      ) وهو خلاف الإجماع ، وإن كان الثاني فهو المطلوب .  
فإن قيل : هو من لوازمه بتقدير عدم المعارض ، وليس من لوازمه بتقدير المعارض ، ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه ، وبيانه أن كلمة ( إن ) مسماة في اصطلاح أهل اللغة بالشرط ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولأن قول القائل لغيره : " إن دخل زيد الدار فأكرمه " في معنى قوله دخول زيد الدار شرط في إكرامه ، فكان ما دخلت عليه كلمة ( إن ) شرطا في الحكم ، وإذا كان شرطا لزم من عدمه عدم المشروط ، ويدل عليه ثلاثة أمور :  
الأول : أن   يعلى بن أمية  فهم من تعليق القصر على الخوف بكلمة ( إن ) عدم القصر عند عدم الخوف حيث  سأل  عمر  قال : " ما بالنا نقصر وقد أمنا " وقد قال تعالى : (  فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم      )  تركها  عمر  على ذلك ، وقال له :  لقد عجبت مما عجبت منه ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " صدقة      [ ص: 89 ] تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته     " .  
[2] وفهم  عمر  ويعلى  ذلك مع تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما على ما فهماه دليل ظاهر على العدم عند العدم .  
الثاني : أن الأمة متفقة على أن الحياة شرط لوجود العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك ، وإن الحول شرط لوجوب الزكاة ، وحكموا بانتفاء العلم والقدرة عند عدم الحياة وبانتفاء وجوب الزكاة عند عدم الحول ، ولولا أن ذلك مقتضى الشرط لما كان كذلك .  
الثالث : أنه إذا كان الشرط مما لا يثبت الحكم مع عدمه على كل حال ، وهو لا يلزم من وجوده وجود الحكم ، فيلزم أن يكون كل أمرين مختلفين لا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ، ولا من عدمه عدمه شرطا ، وهو محال ، متفق عليه .  
والجواب : قولهم إنه من لوازمه بتقدير عدم المعارض .  
قلنا يجب أن لا يكون مقتضيا لذلك ، حذرا من التعارض بتقدير وجود المعارض .  
وما ذكروه ثانيا : إنا وإن سلمنا أن ما دخلت عليه كلمة ( إن ) شرط ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدمه عدم المشروط .  
وأما الاستدلال بقضية   يعلى بن أمية  فليس فيه ما يدل على أن عدم الخوف مانع من ثبوت القصر دونه ، بل لعله فهم أن الأصل عدم القصر ، وحيث ورد القصر حالة الخوف بقوله : (  فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم      ) ولم يوجد ما يدل على القصر حالة عدم الخوف ، فيبقى على حكم الأصل .  
فإن قيل : ما ذكرتموه من إنما يصح أن لو كان الأصل في الصلاة الإتمام ، وليس كذلك ، بل الأصل في الصلاة عدم الإتمام ، ودليله ما روي عن  عائشة     - رضي الله عنها - أنها قالت :  كانت الصلاة في السفر والحضر ركعتين ، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر  [3] فلم يبق للتعجب وجه سوى دلالة اشتراط الخوف وعدم القصر عند عدمه .  
قلنا الصلاة المشروعة بديا ركعتين لا تسمى مقصورة ، كصلاة الصبح ، ولا فعلها قصرا ، وإنما المقصورة اسم لما جوز الاقتصار عليه من ركعتين في الرباعية      [ ص: 90 ] ولفظ القصر لنفس الاقتصار على الركعتين من الرباعية ، فإطلاق لفظ القصر في الآية مشعر بسابقة وجوب الإتمام لا محالة .  
وإذا كان الإتمام هو الأصل السابق على القصر فقد بطل ما ذكروه .  
كيف وإن ما ذكرناه من الاحتمال هو الأولى ، وإلا فلو كان اشتراط الخوف في القصر مانعا من القصر مع عدمه ، لما جاز القصر مع عدم الخوف أو كان القصر على خلاف الدليل ، وهو ممتنع من غير ضرورة .  
وأما  [4] عدم العلم والقدرة ، وعدم وجوب الزكاة عند عدم الحياة وعدم الحول ، فليس في ذلك ما يدل على أن عدم الشرط مانع من وجود الحكم مع عدمه ولا بد ، بل غايته أن الحكم قد ينتفي في بعض صور نفي الشرط ، ولا نزاع فيه ، وإنما النزاع في لزوم انتفائه من انتفاء شرطه ولا بد .  
وأما الوجه الثالث : فالوجه في جوابه أن يقال : لا يلزم من كون الشرط لا يلزم من ثبوته ثبوت الحكم ، ولا من نفيه نفيه ، إذا كان غير الشرط مشاركا له في هذه الصفة ، أن يكون شرطا لأنه لا يمتنع اشتراك المختلفات في عارض عام لها .  
كيف وإن معنى كون الشيء شرطا لغيره أنه مؤكد لحال المشروط ، بمعنى أنه إذا تحقق الشرط لا يجوز نفي المشروط عند تحقق مقتضيه دفعا لوهم من توهم أن الخطاب لو ورد مطلقا لجاز أن لا يكون المشروط بذلك الشرط مرادا .  
وذلك كما لو قال القائل : " ضح بالشاة وإن كانت عوراء " فإنه لو قال : " ضحوا بالشاة مطلقا " لجاز أن يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بالعوراء فكان ذكر هذا الوهم .  
وعلى هذا فلا يلزم أن يكون كل شيء شرطا لكل شيء كما قالوه ، إلا أن يكون الشرط على هذا النحو الذي ذكرناه ، وليس كذلك .  
وإن سلمنا أن الشرط يمنع من وجود المشروط دونه ، ولكن متى إذا أمكن قيام شرط مقام ذلك الشرط ، أو إذا لم يقم مقامه شرط آخر ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .  
وهذا هو مذهب   القاضي عبد الجبار  وأبي عبد الله البصري     .  
وعلى      [ ص: 91 ] هذا فكونه شرطا يتحقق بانتفاء الحكم عند انتفائه ، إذا لم يقم غيره مقامه وإن لم يثبت إذا قام غيره مقامه ، فلم قلتم إن غيره لم يقم مقامه في الشرطية مع أن لفظ الاشتراط لا يدل على وجود شرط آخر ، ولا على عدمه .  
فإن قيل : إذا قال القائل لغيره : " إن دخل زيد الدار فأعطه درهما " ، معناه أن الشرط هو دخول الدار في عطيتك له ، وذلك يقتضي أن يكون كمال الشرط هو دخول الدار ، لأن لام الجنس تقتضي العموم ، ولأن قوله : " إن دخل الدار فأعطه درهما " ، يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول ، فلو قام شرط آخر مقامه لزم منه جواز الإعطاء مع عدم الدخول ، فيقتضي الشرط الأول امتناع وجود شرط آخر يقوم مقامه ، لما فيه من إخراج الشرط الأول عن كونه شرطا .  
قلنا : جواب الأول أنا لا نسلم أن معنى قوله : ( إن دخل الدار ) هو الشرط ، بل هو شرط ، وذلك لا يمنع من شرط آخر ، وتقدير لام الجنس هاهنا زيادة لم يدل عليها دليل ، فلا يصار إليها .  
وجواب الثاني : أنا لا نسلم أن قوله : ( إن دخل الدار ) يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول مطلقا ، بل إذا لم يقم غيره مقامه . ( لكن قد يمكن أن يقال هاهنا إذا سلم أنه إذا لم يقم غيره مقامه أن عدمه يقتضي العدم ، فالأصل عدم قيام غيره مقامه ، فاقتضى عدمه العدم . )  
وربما احتج   القاضي عبد الجبار  وأبو عبد الله البصري  بأنه لو منع الشرط من ثبوت الحكم عند عدمه لكان قوله تعالى : (  ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا      ) يمنع من تحريم الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن ، وهو محال مخالف للإجماع .  
ولقائل أن يقول : ذكر إرادة التحصن إنما كان لكونه شرطا في الإكراه لاستحالة تحقق الإكراه على الزنا في حق من هو مريد له غير مريد للتحصن ، لا لأنه شرط في تحريم الإكراه على الزنا ، والله أعلم .  
				
						
						
