[ ص: 126 ] المسألة الثانية
اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز بعد خروج وقته ، واختلفوا في جواز ذلك قبل دخول الوقت . نسخ حكم الفعل
وذلك كما لو قال الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ، ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا .
فذهبت الأشاعرة ، وأكثر أصحاب ، وأكثر الفقهاء إلى جوازه ، ومنع من ذلك جماهير الشافعي المعتزلة وأبو بكر الصيرفي من أصحاب ، وبعض أصحاب الإمام الشافعي . أحمد بن حنبل
والمختار جوازه ، وقد احتج الأصحاب بحجج ضعيفة .
الحجة الأولى : قوله تعالى ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت ) دل على أنه يمحو كل ما يشاء محوه على كل وجه ، فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها ، ولا دلالة فيه ، لأن الآية إنما تدل على محو كل ما يشاء محوه ، وليس فيها ما يدل على أنه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها ، مع كون ذلك ممتنعا عند الخصم ، وإن بين إمكان مشيئة ذلك بغير الآية ، ففيه ترك الاستدلال بالآية .
كيف وإنه قد أمكن حمل المحو على ما هو حقيقة فيه ، وهو محو الكتابة مما يكتبه الملكان من المباحات ، وتبقية المعاصي والطاعات .
ومنهم من احتج بقصة إبراهيم - عليه السلام - وأمر الله له بذبح ولده ونسخه عنه بذبح الفداء ، ودليل أمره بذلك أنه قد روي أنه تعالى قال لإبراهيم : ( اذبح ولدك ) وروي ( واحدك ) والقرآن دل عليه بقوله ( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ) وأنه نسخ بذبح الفداء بقوله : ( وفديناه بذبح عظيم ) ، وهذا أيضا مما يضعف الاحتجاج به جدا .
غير أنه قد وجه الخصوم على هذه الحجة اعتراضات واهية لا بد من ذكرها والإشارة إلى الانفصال عنها تكثيرا للفائدة [ ص: 127 ] ثم نذكر بعد ذلك وجه الضعيف في الآية المذكورة .
[1] أما الأسئلة فأولها : أنهم قالوا : إن ذلك إنما كان مناما لا أصل له ، فلا يثبت به الأمر ، ولهذا قال إني أرى في المنام .
سلمنا أن منامه أصل يعتمد عليه ، ولكن لا نسلم أنه كان قد أمر .
وقول ولده افعل ما تؤمر ، ليس فيه دلالة على أنه كان قد أمر ، ولهذا علقه على المستقبل .
ومعناه افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل .
سلمنا أنه كان مأمورا .
لكن لا نسلم أنه كان مأمورا بالذبح حقيقة بل بالعزم على الذبح امتحانا له بالصبر على العزم ، وذلك بلاء عظيم ، والفداء إنما كان عما يتوقعه من الأمر بالذبح لا عن نفس وقوع الأمر بالذبح ، أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين ، فاستشعر إبراهيم أنه مأمور بالذبح ولذلك قال تعالى : ( قد صدقت الرؤيا ) سلمنا أنه كان مأمورا بالذبح حقيقة إلا أنه قد وجد منه ، فإنه قد روي أنه كان كلما قطع جزءا عاد ملتحما إلى آخر الذبح ، ولهذا قال الله تعالى : ( قد صدقت الرؤيا ) وإذا كان ما أمر به من الذبح قد وقع ، فالفداء لا يكون نسخا .
سلمنا أن الذبح حقيقة لم يوجد ، لكن قد روي أن الله تعالى منعه من الذبح بأن جعل على عنق ولده صفيحة من نحاس أو حديد مانعة من الذبح لا أن ذلك كان بطريق النسخ .
والجواب عن الأول : أن وحي معمول به ، وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منام الأنبياء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي أن وحيه كان ستة أشهر بالمنام ، ولهذا قال - عليه السلام - : " " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة [2] فكانت نسبة الستة أشهر من ثلاثة وعشرين سنة من نبوته ، [ ص: 128 ] كذلك ، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما احتلم نبي قط [3] يعني ما تشكل له الشيطان في المنام على الوجه الذي يتشكل لأهل الاحتلام .
كيف وإنه لو كان ذلك خيالا لا وحيا لما جاز لإبراهيم العزم على الذبح المحرم بمنام لا أصل له ، ولما سماه بلاء مبينا ، ولما احتاج إلى الفداء .
وعن الثاني أن قوله ( افعل ما تؤمر ) وإن لم يكن ظاهرا في الماضي ، لكنه قد يرد ويراد به الماضي .
ولهذا فإنه لو قال القائل : " قد أمرني السلطان بكذا " فإنه يصح أن يقال له : " افعل ما تؤمر " أي ما أمرت به ، وأنت مأمور .
ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد إلى الصحراء وأخذ آلات الذبح وترويع الولد ، فإن ذلك كله مما يحرم من غير أمر ولا إذن في ذلك .
وعن الثالث : أن حمل الأمر على العزم أو على مقدمات الذبح على خلاف قوله : ( إني أرى في المنام أني أذبحك ) ثم لو كان مأمورا بالعزم على الذبح ومقدمات الذبح لا غير ، لما سماه بلاء مبينا ، ولما احتاج إلى الفداء لكون المأمور به مما وقع ، ولما قال الذبيح : ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) فإن ذلك مما لا ضرر عليه فيه ، وقوله : ( قد صدقت الرؤيا ) معناه أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه .
لكن لقائل أن يقول : إذا كان قد أمر بإخراج الولد إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين مع إبهام عاقبة الأمر عليه وعلى ولده ، فإنه يظهر من ذلك لهما أن عاقبة الأمر إنما هي الذبح ، وذلك عين البلاء ، وبه يتحقق قول الذبيح : ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) وأما تسمية الكبش فداء فإنما كان عن الأمر المتوقع لا عن الأمر الواقع غير أن هذا مما لا يستقيم على أصل أبي الحسين البصري [4] لما فيه من توريط المكلف في الجهل ، حيث أوجب عليه ما يظهر منه الأمر بالذبح ولا أمر .
[ ص: 129 ] وعن الرابع : أنه لو كان قد أتى بما أمر به من الذبح لما احتاج إلى الفداء ولا اشتهر ذلك وظهر ، لأنه من أكبر الآيات الباهرات ، وحيث لم ينقله سوى بعض الخصوم دل على ضعفه .
وعن الخامس : أن ذلك من المعتزلة لا يصح لأنهم لا يرون التكليف بما لا يطاق .
وهذا تكليف بما لا يطاق ، كيف وإنه لو كان كما ذكروه لنقل أيضا واشتهر لكونه من المعجزات العظيمة .
هذا ما في هذه الأسئلة والأجوبة .
وأما وجه الضعف في الاحتجاج بقصة إبراهيم فمن جهة أن لقائل أن يقول : وإن سلمنا أنه نسخ عنه الأمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال .
بل إنما كان ذلك بعد التمكن من الامتثال ، والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده .
ولا سبيل إلى بيان أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال إلا بعد بيان أن مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور ، أو أن وقت الأمر كان مضيقا لا يجوز التأخير عنه للنبي - عليه السلام - وأن النبي - عليه السلام - لا يجوز عليه صغائر المعاصي ، والكل ممنوع على ما عرف .
الحجة الثانية : أن الله تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل فعلها .
وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشا يوم الحديبية على رد من هاجر إليه ، ثم نسخ ذلك قبل الرد بقوله تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) .
وأيضا ، فإن الإجماع من الخصوم واقع على أن الله تعالى لو أمرنا بالمواصلة في الصوم سنة ، جاز أن ينسخه عنا بعد شهر منها ، وذلك نسخ للصوم فيما بقي من السنة قبل حضور وقته .
وأيضا ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مكة ساعة من نهار " ومع ذلك منع من القتال فيها ، وهو نسخ قبل وقت الفعل ، وهذه الحجج أيضا ضعيفة . أحلت لي
أما الأولى : فلأن لقائل أن يقول : لا نسلم أن نسخ تقديم الصدقة كان قبل التمكن من الوقت ، ويدل عليه أمران :
الأول : عتاب الله لهم بقوله : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم ) الآية ، ولو لم يكن وقت الفعل قد حضر لما حسن ذلك .
[ ص: 130 ] الثاني : أن عليا - رضي الله عنه - ناجى بعد تقديم الصدقة [5] وذلك يدل على حضور وقت الفعل .
وأما الثانية : فلأنه لا يمتنع أن يكون ذلك بعد مضي وقت تمكن المهاجرة فيه إليه مع ردهن ، ولا دليل على وقوع نسخ ذلك قبل دخول وقت الفعل فلا يكون حجة .
وأما الثالثة : فلأن النسخ ورد على بعض ما تناوله اللفظ ، فكان بيانا أن مراده من اللفظ إنما هو بعض السنة ، ويكون النهي متناولا لغير ما تناوله الأمر ، وذلك غير ممتنع ، وهذا بخلاف ما إذا نسخ قبل دخول شيء من الوقت ، لأن النهي يكون متناولا لغير ما تناوله الأمر ، ولا يلزم من جواز ذلك ثم جوازه هاهنا .
وأما الرابعة : فلأن إباحة القتال في تلك الساعة لا يقتضي وقوع القتال ولا بد ، وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون النهي عن القتال بعد مضي تلك الساعة ، ولا دليل يدل على وقوع النسخ قبل دخول الوقت .
كيف وأنه لا دلالة في قوله : " مكة ساعة " على إباحة القتال بل لعله أراد بذلك إباحة قتل أناس معينين أحلت لي كابن خطل وغيره ، فالنهي عن القتال لا يكون نسخا لإباحة القتال .
والأقرب في ذلك حجتان :
الحجة الأولى : التمسك بقصة الإسراء ، وهو ما صح بالرواية أن الله تعالى فرض ليلة الإسراء على نبيه وعلى أمته خمسين صلاة ، فأشار عليه موسى بالرجوع ، وقال له : " أمتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص الله ينقصك " وأنه قبل ما أشار عليه ، وسأل الله في ذلك فنسخ الخمسين إلى أن بقي خمس صلوات ، وذلك نسخ لحكم الفعل قبل دخول وقته .
الحجة الثانية : أنه يجوز أن يأمر الله تعالى زيدا بفعل في الغد ، ويمنعه منه بمانع عائق له عنه قبل الغد ، فيكون مأمورا بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع .
وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء الناسخ مع تعقيبه بالنسخ إذ الفعل لا يفرق بين الحالتين ، وهو إلزام ملزم .
[ ص: 131 ] فإن قيل : أما قصة الإسراء فهي خبر واحد فلا يمكن إثبات مثل هذه المسألة به ، وإن كان حجة إلا أنه يقتضي نسخ حكم الفعل قبل التمكن ، وقبل تمكن المكلف من العلم به لنسخه قبل الإنزال ، وذلك مما لا يحصل معه الثواب بالعزم على الأدواء والاعتقاد لوجوبه ولم يقولوا به .
وأما الحجة الثانية : فلا نسلم أنه يجوز أن يأمر زيدا في الغد ، ويمنعه منه قبل الغد لأنه لا يخلو .
إما أن يأمره مطلقا ويريد منه الفعل أو بشرط زوال المنع .
فإن كان الأول : فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفا بما لا يطاق ، وهو محال .
وإن كان الثاني فالأمر بالشرط مما لا يجوز وقوعه من العالم بعواقب الأمور على ما سبق تقريره في الأوامر ، وهذا بخلاف ما إذا أمر جماعة بفعل في الغد ، فإنه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل ، لأن ذلك يدل على أنه لم يرد بخطابه من علم منعه وإذا لم يجز في المنع ، فكذلك في النسخ .
ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه إذا نهى المكلف عن الفعل الذي أمر به قبل دخول وقته ، فالأمر والنهي قد تواردا على شيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد ، وهو محال .
وذلك لأن الفعل في نفسه في ذلك الوقت ، إما أن يكون حسنا أو قبيحا .
وعند ذلك ، فلا يخلو الباري تعالى عند الأمر بالفعل ، إما أن يكون عالما بما هو عليه الفعل من الحسن والقبح ، وكذلك في حالة النهي أو لا يكون عالما به أصلا أو هو عالم به في حالة النهي دون حالة الأمر أو في حالة الأمر دون حالة النهي :
فإن كان الأول : فإن كان الفعل حسنا فقد نهى عن الحسن مع علمه به ، وإن كان قبيحا فقد أمر بالقبيح مع علمه به ، وهو قبيح ، وإن كان الثاني فهو محال لما يلزمه من الجهل في حق الله تعالى ، وكذلك إن كان الثالث أو الرابع .
كيف وإنه إذا ظهر له في حالة النهي ما لم يكن قد ظهر له في حالة الأمر فهو عين البداء ، والبداء على الله محال .
[ ص: 132 ] الوجه الثاني : أنه إذا أمر بالفعل في وقت معين ، ثم نهى عنه فقد بان أنه لم يرد إيقاعه ، ويكون قد أمر بما لم يرده ، ولو جاز ذلك لما بقي لنا وثوق بقول من أقوال الشارع لجواز أن يكون المراد بذلك القول ضد ما هو دال على إرادته وذلك محال .
الثالث : أن ذلك مما يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد مأمورا منهيا ، والأمر والنهي عندكم كلام الله وكلامه صفة واحدة ، فيكون الكلام الواحد أمرا نهيا بشيء واحد في وقت واحد ، وذلك محال .
والجواب قولهم في قصة الإسراء إنها خبر واحد .
قلنا : والمسألة عندنا من مسائل الاجتهاد ، ولذلك لا يكفر المخالف فيها ولا يبدع .
قولهم : إنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به .
قلنا : فقد نسخ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد علمه ، وإن سلمنا أنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به ، ولكن لم قالوا بامتناعه .
قولهم : إنه لا يتعلق به فائدة الثواب باعتقاد الوجوب والعزم على الفعل ، فهو مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى ، وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا .
قولهم على الحجة الثانية : إنا لا نسلم الأمر مع المنع .
قلنا : قد سبق تقريره في الأوامر .
قولهم إن أراد منه الفعل فهو تكليف بما لا يطاق .
قلنا : وإن كان كذلك ، فهو جائز عندنا على ما تقرر قبل .
قولهم : وإن لم يكن مريدا له ، فهو أمر بشرط عدم المنع من العالم بعواقب الأمور ، وذلك محال لما سبق .
قلنا : وقد سبق أيضا في الأوامر جواز ذلك ، وإبطال كل ما تخيلوه مانعا .
قولهم في المعارضة الأولى : إنه يلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى آمرا وناهيا عن فعل واحد في وقت واحد ، وهو محال لا نسلم إحالته .
قولهم : إما أن يكون حسنا أو قبيحا ، فهو مبني على الحسن والقبح العقلي ، وهو باطل لما سبق .
فلئن قالوا : وإن لم يكن حسنا ولا قبيحا ، فلا يخلو : إما أن يكون مشتملا على مصلحة أو مفسدة .
فإن كان الأول : فقد نهى عما فيه مصلحة ، وإن كان الثاني فقد أمر بما فيه مفسدة .
[ ص: 133 ] قلنا : وهذا أيضا مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى ، وهو باطل لما عرف من أصلنا ، بل جاز أن يكون الأمر والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة .
وإن سلم عدم خلوه عن المصلحة والمفسدة ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة ، بل جاز أن يقال : إنه مشتمل على المصلحة حالة الأمر ، ومشتمل على المفسدة حالة النهي ، ولا مفسدة حالة الأمر ، ولا مصلحة حالة النهي على ما تقرر قبل .
ولا يلزم من ذلك الجهل في حق الله تعالى ، ولا البداء لعلمه حالة الأمر بما الفعل مشتمل عليه من المصلحة ، وأنه سينسخه في ثاني الحال لما يلازمه من المفسدة المقتضية للنسخ حالة النسخ كما علم .
قولهم في المعارضة الثانية : إذا أمر بالفعل ، ثم نهى عنه فتبين أنه أمر بما لم يرد مسلم .
وعندنا ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به كما سبق تعريفه .
قولهم : يلزم من ذلك عدم الوثوق بجميع أقوال الشارع إن أرادوا بذلك أنه إذا خاطب بما يحتمل التأويل ، أنا لا نقطع بإرادته لما هو الظاهر من كلامه ، فمسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك ، وهذا هو أول المسألة ، وإن أرادوا به أنه لا يمكن الاعتماد على ظاهره مع احتمال إرادة غيره من الاحتمالات البعيدة ، فغير مسلم ، وإن أرادوا غير ذلك فلا نسلم تصوره .
قولهم : في المعارضة الثالثة إنه يلزم منه أن يكون الفعل الواحد في وقت واحد مأمورا منهيا .
قلنا : مأمور منهي معا ، أو لا معا ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .
قولهم إن كلام الله عندكم صفة واحدة لا نسلم ذلك ، إن سلكنا مذهب من أصحابنا ، وإن سلكنا مذهب عبد الله بن سعد الشيخ أبي الحسن فلم قالوا بالإحالة .
قولهم يلزم منه أن تكون الصفة الواحدة أمرا نهيا .
قلنا : إنما تسمى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلقاتها ومتعلقاتها ، فإن تعلقت بالفعل سميت أمرا ، وإن تعلقت بالترك سميت نهيا ، وذلك إنما يمتنع أن لو اتحد زمان التعلق بالفعل والترك .
وأما إذا كان زمان التعلق مختلفا فلا ، والمأمور والمنهي وإن كان زمانه متحدا لكن تعلق الأمر به غير زمان تعلق النهي به ، ومع التغاير فلا امتناع .