[ ص: 150 ] المسألة التاسعة
المنقول عن رضي الله عنه في أحد قوليه : أنه لا يجوز الشافعي نسخ السنة بالقرآن ، ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلا ووقوعه شرعا .
احتج المثبتون على الجواز العقلي والوقوع الشرعي .
أما الجواز العقلي : فهو أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) غير أن الكتاب متلو ، والسنة غير متلوة ، غير ممتنع عقلا ، ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلا . ونسخ حكم أحد الوحيين
وأما الوقوع الشرعي فيدل عليه أمور :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده حتى إنه رد أبا جندل وجماعة من الرجال فجاءت امرأة فأنزل الله تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) وهذا قرآن نسخ ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من السنة .
الثاني : أن التوجه إلى بيت المقدس لم يعرف إلا من السنة [1] وقد نسخ بقوله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما بالقرآن ، وهو قوله : ( فثم وجه الله ) ; لأن قوله فثم وجه الله تخيير بين القدس وغيره من الجهات ، والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عينا ، وذلك غير معلوم من القرآن .
الثالث : أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة ، وقد نسخ ذلك بقوله تعالى : ( فالآن باشروهن ) .
الرابع : أن في قوله تعالى : ( صوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ، ونسخ بصوم رمضان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) .
الخامس : أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزا بالسنة ، ولهذا الخندق وقد أخر الصلاة : " حشا الله قبورهم نارا " ; لحبسهم له عن الصلاة قال [ ص: 151 ] يوم [2] ، وقد نسخ ذلك الجواز بصلاة الخوف الواردة في القرآن .
فإن قيل : ما ذكرتموه من صور نسخ السنة بالقرآن ، ما المانع أن يكون الحكم في جميع ما ذكرتموه ثابتا بقرآن نسخ رسمه وبقي حكمه ؟ وإن سلمنا أنه ثابت بالسنة ، ولكن ما المانع أن يكون النسخ وقع بالسنة ، ودلالة ما ذكرتموه من الآيات على أحكامها ليس فيه ما يدل على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة .
ويدل على أن الأمر على ما ذكرناه أن كان من أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ وأحكام التنزيل ، وقد أنكر الشافعي ، ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما كان إنكاره صحيحا ، ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على نسخ السنة غير أنه معارض بالنص والمعقول . نسخ السنة بالقرآن
أما النص فقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) جعل السنة بيانا فلو نسخت لخرجت عن كونها بيانا ، وذلك غير جائز .
وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أنه لو نسخت السنة بالقرآن لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته ; لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه الرسول ، وذلك مناقض لمقصود البعثة ولقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) .
الثاني : أن السنة ليست من جنس القرآن ; لأن القرآن معجزة ومتلو ومحرم تلاوته على الجنب ولا كذلك السنة ، وإذا لم يكن القرآن من جنس السنة امتنع نسخه لها كما يمتنع نسخ القرآن بحكم دليل العقل وبالعكس .
[ ص: 152 ] والجواب عن السؤال الأول : أن إسناد إثبات ما ذكرناه من الأحكام المنسوخة إلى ما وجد من السنة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته صالح لإثباتها ، وقد اقترن بها الإثبات فكان الإثبات مستندا إليها ، وكذلك الكلام في إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة للنسخ من ترتب النسخ عليها ، فبتقدير [3] وجود خطاب آخر يكون إسناد الأحكام المذكورة إليه بتقدير نسخه .
وكذلك تقدير وجود سنة ناسخة لها مع عدم الاطلاع عليها ، وإمكان إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة لنسخها من غير ضرورة يكون ممتنعا .
ولو فتح هذا الباب لما استقر لأحد قدم في إثبات ناسخ ولا منسوخ ; لأن ما من ناسخ يقدر إلا ويحتمل أن يكون الناسخ غيره ، وما من منسوخ حكمه يقدر إلا ويحتمل أن يكون إسناد ذلك الحكم إلى غيره ، وهو خلاف إجماع الأمة في الاكتفاء بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ ، وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت ، وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه ، وعن المعارضة بالنص من وجهين :
الأول : أن المراد بقوله : ( لتبين للناس ) إنما هو التبليغ ، وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره ، وليس فيه ما يدل على امتناع كون القرآن ناسخا للسنة .
الثاني : وإن سلمنا أن المراد بقوله " لتبين للناس " إنما هو بيان المجمل والعام والمطلق والمنسوخ ، لكن لا نسلم دلالة ذلك على انحصار ما ينطق به في البيان ، بل جاز مع كونه مبينا أن ينطق بغير البيان ، ويكون محتاجا إلى بيان .
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه :
الأول : أن ذلك إنما يصح أن لو كانت السنة من عند الرسول من تلقاء نفسه ، وليس كذلك بل إنما هي من الوحي على ما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) .
الثاني : أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولا غير مرضي لامتنع نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة ، وهو خلاف إجماع القائلين بالنسخ .
[ ص: 153 ] الثالث : أن ما ذكروه إنما يدل على أن المشروع أولا غير مرضي أن لو كان النسخ رفع ما ثبت أولا ، وليس كذلك بل هو عبارة عن دلالة الخطاب على أن الشارع لم يرد بخطابه الأول ثبوت الحكم في وقت النسخ دون ما قبله .
وعن المعارضة الثانية : أنه لا يلزم من اختلاف جنس السنة والقرآن بعد اشتراكهما في الوحي بما اختص بكل واحد منهما - امتناع نسخ أحدهما بالآخر .
وعلى هذا فنقول : القرآن يكون رافعا لحكم الدليل العقلي وإن لم يسم ناسخا .