[ ص: 62 ] المسألة الرابعة
مذهب الشافعي وأكثر الناس جواز وأحمد بن حنبل خلافا لأصحاب إثبات الحدود والكفارات بالقياس أبي حنيفة .
ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول .
أما النص : فتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ في قوله : " " أجتهد رأيي [1] مطلقا من غير تفصيل وهو دليل الجواز ، وإلا لوجب التفصيل لأنه في مظنة الحاجة إليه ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع .
وأما الإجماع : فهو أن الصحابة لما اشتوروا في حد شارب الخمر قال علي رضي الله عنه : ( ) إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى ; فحدوه حد المفتري [2] قاسه على حد المفتري ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك نكير ، فكان إجماعا .
وأما المعقول : فهو أنه مغلب على الظن ، فجاز إثبات الحد والكفارة به لقوله عليه السلام : " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " ، وقياسا على خبر الواحد [3] فإن قيل : ما ذكرتموه من الدلائل ظنية ، والمسألة أصولية قطعية ، فلا يسوغ التمسك بالظن فيها .
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ، ولكنه معارض بما يدل على عدمه ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الحدود والكفارات من الأمور المقدرة التي لا يمكن تعقل المعنى الموجب لتقديرها ، والقياس فرع تعقل علة حكم الأصل ، فما لا تعقل له من الأحكام علة ; فالقياس فيه متعذر كما في أعداد الركعات وأنصبة الزكاة ونحوها .
الثاني : أن الحدود عقوبات وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة ، والقياس [ ص: 63 ] مما يدخله احتمال الخطأ ، وذلك شبهة والعقوبات مما تدرأ بالشبهات لقوله عليه السلام : " " ادرءوا الحدود بالشبهات [4] .
الثالث : أن الشارع قد أوجب حد القطع بالسرقة ولم يوجبه بمكاتبة الكفار مع أنه أولى بالقطع وأوجب الكفارة بالظهار لكونه منكرا وزورا ولم يوجبها في الردة مع أنها أشد في المنكر وقول الزور ، فحيث لم يوجب ذلك فيما هو أولى دل على امتناع جريان القياس فيه .
والجواب عن الأول : لا نسلم أن المسألة قطعية .
وعن المعارضة الأولى : أن الحكم المعدى من الأصل إلى الفرع إنما هو وجوب الحد والكفارة من حيث هو وجوب ، وذلك معقول بما علم في مسائل الخلاف لا أنه مجهول .
وعن الثانية : لا نسلم احتمال الخطأ في القياس على قولنا إن كل مجتهد مصيب ، وإن سلمنا احتمال الخطأ فيه لكن لا نسلم أن ذلك يكون شبهة مع ظهور الظن الغالب بدليل جواز مع احتمال الخطأ فيه لما كان الظن فيه غالبا . إثبات الحدود والكفارات بخبر الواحد
وعن الثالثة : من وجهين :
الأول : أن غاية ما يقدر أن الشارع قد منع من إجراء القياس في بعض صور وجوب الحد والكفارة ، وذلك لا يدل على المنع مطلقا ، بل يجب اعتقاد اختصاص تلك الصور بمعنى لا وجود له في غيرها ; تقليلا لمخالفة ما ذكرناه من الأدلة .
[ ص: 64 ] الثاني الفرق ، وذلك إما بين السرقة ، ومكاتبة الكفار ; فلأن داعية الأراذل وهم الأكثرون متحققة بالنسبة إليها ، فلولا شرع القطع لكانت مفسدة السرقة مما تقع غالبا ، ولا كذلك في مكاتبة الكفار .
وإما بين الظهار والردة فهو أن الحاجة إلى شرع الكفارة في الردة دون الحاجة إلى شرعها في الظهار ، وذلك لما ترتب على الردة من شرع القتل الوازع عنها بخلاف الظهار ، وربما أورد الأصحاب مناقضة على أصحاب أبي حنيفة في منعهم من إيجاب الكفارة بالقياس بإيجاب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان بالقياس على المجامع ، وهو غير لازم على من قال منهم بذلك ، وذلك لأن العلة عندهم في حق المجامع لإيجاب الكفارة مومأ إليها في قصة الأعرابي ، وهي عموم الإفساد ، فالحكم في الأكل والشرب يكون ثابتا بالاستدلال أي بعلة مومأ إليها لا بالقياس ، وذلك لأن ، إذ هو أحد أركان القياس لضرورة اعتبار العلة الجامعة ، والعلة إذا كانت منصوصة أو مومأ إليها ، فقد ثبت اعتبارها بالنص لا بحكم الأصل ، ومهما كان الحكم في الأصل غير ملتفت إليه في اعتبار العلة لاستقلال النص باعتبارها ، فلا يكون الحكم في الفرع بالقياس ; لأن العمل بالقياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل . القياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل
وقد قيل إنه لا نظر إليه بل غايته أن النص قد دل في الوقاع على الحكم وعلى العلة ، فالحكم في الفرع إذا كان بالعلة المنصوصة لا يكون حكما بالقياس ولا بالنص ; لعدم دلالة النص عليه وإن دل على العلة ، ولا إجماع لوقوع الخلاف فيه ، وما كان ثابتا لا بنص ولا إجماع ولا قياس ، فالذي ثبت به هو المعبر عنه بالاستدلال [5] .