المسألة السابعة
فيما يصح نسبته من الأقوال إلى المجتهد وما لا يصح .
ولا خلاف في صحة اعتقاد الوجوب والتحريم أو النفي والإثبات معا في مسألتين مختلفتين ، كوجوب الصلاة وتحريم الزنا في اعتقاد الجمع بين الأحكام المختلفة التي لا تقابل بينها في شيء واحد ، كالتحريم ووجوب الحد ونحوه ، وفي اعتقاد وجوب فعلين متضادين على البدل كالاعتداد بالأطهار والحيض ، أو فعلين غير متضادين كخصال الكفارة .
وأما اعتقاد حكمين متقابلين في شيء واحد على سبيل البدل فقد اختلفوا فيه ، وبينا مأخذ القولين في المسألة المتقدمة ، وما هو المختار في ذلك .
[ ص: 201 ] وأما ما يقال في هذه المسألة : للمجتهد الفلاني قولان ، فلا يخلو إما أن يكونا منصوصين في تلك المسألة أو أحدهما منصوص عليه والآخر منقول ، فإن كان الأول فلا يخلو : إما أن يكون التنصيص عليهما في وقتين أو في وقت واحد ، فإن كان ذلك في وقتين فلا يخلو : إما أن يكون التاريخ معلوما أو غير معلوم ، فإن كان الأول فالقول الثاني ناسخ للأول ، وهو الذي يجب إسناده إليه دون الأول لكونه مرجوعا عنه ، وإن قيل : إن الأول قوله ، فليس إلا بمعنى أنه كان قولا له ، لا بمعنى أنه الآن قوله ومعتقده .
وإن كان الثاني : فيجب اعتقاد نسبة أحدهما إليه والرجوع عن الآخر ، وإن لم يكن ذلك معلوما ولا معينا .
وعلى هذا فيمتنع العمل بأحدهما قبل التبيين ; لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المرجوع عنه .
وهذا كما ، فإنه يمتنع العمل بكل واحد منهما لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المنسوخ ، وكذلك الراوي فإنه إذا سمع كتابا من الأخبار سوى خبر واحد منه وأشكل عليه ما سمعه عن غيره ، فإنه لا يجوز له رواية شيء منه لاحتمال أن يكون ذلك ما لم يروه . إذا وجدنا نصين وعلمنا أن أحدهما ناسخ للآخر ، ولم يتبين لنا الناسخ من المنسوخ
وأما إن كان التنصيص عليهما في وقت واحد ، فإما أن ينص على الراجح منهما بأن يقول : " وهذا القول أولى " ، أو يفرع عليه دون الآخر ، فيظهر من ذلك أن قوله : " وما يجب أن يكون معتقدا له " هو الراجح دون المرجوح .
وأما أن لا يوجد منه ما يدل على الترجيح كما نقل عن ذلك في سبع عشرة مسألة فلا يخلو : إما أنه ذكر ذلك بطريق الحكاية لأقوال من تقدم فلا تكون أقوالا له ، وإما أن يكون ذلك بمعنى اعتقاده للقولين وهو محال ; وذلك لأن دليلي القولين : إما أن يكون أحدهما راجحا على الآخر في نظره ، أو هما متساويان . الشافعي
[ ص: 202 ] فإن كان الأول فاعتقاده لحكم الدليل المرجوح ممتنع ، وإن كان الثاني فاعتقاده للتحريم والإباحة معا في شيء واحد من جهة واحدة محال .
وإن كان معنى القولين التخيير بين الحكمين ، أو التردد والشك كتردد في التسمية : هل هي آية من أول كل سورة ؟ فذلك مما لا يصح معه نسبة القولين إليه . الشافعي
ولهذا فإن من قال بالتخيير بين خصال الكفارة لا يقال : إن له في الكفارة أقوالا .
وكذلك من شك في شيء وتردد فيه لا يقال له فيه أقوال ، وإنما يمكن تصحيح ذلك بأن يحمل قوله : ( في المسألة قولان ) على أنه قد وجد فيها دليلين متعارضين ، ولا موجود سواهما إما نصان أو استصحابان ، كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا منقطع الخبر ، فإن الأصل بقاء حياته والأصل بقاء اشتغال الذمة أو أصلان مختلفان ، والمسألة مشابهة لكل واحد من الأصلين على السوية .
ويمكن أن يقول بكل واحد منهما قائل ، فقوله بوجود هذا الاحتمال ، وهذا قولان لكنه ليس قولا بحكم شرعي .
وأما إن كان منصوصا عليه والآخر منقولا ، فذلك إنما يتصور في صورتين متناظرتين ، وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يظهر بين الصورتين فارق أو لا يظهر ، فإن ظهر بينهما فارق فالنقل يكون ممتنعا .
وإن لم يظهر بينهما فارق وكان الإمام قد نص على حكم الصورتين فلا يخلو : إما أن يكون قد نص عليهما في وقتين أو في وقت واحد .
فإن كان في وقتين : فإما أن يكون التاريخ معلوما أو غير معلوم ، فإن كان معلوما فتنصيصه على الحكم الأخير يستلزم ثبوت مثله في الصورة المنصوص عليها أولا ، ضرورة عدم الفرق ، ويلزم من ذلك رجوعه عن الحكم المنصوص عليه أولا ، وإن لم يكن التاريخ معلوما فيجب اعتقاد اشتراك الصورتين في أحد الحكمين ، وهو ما نص عليه آخرا ، وإن لم يكن معلوما بعينه ، وعلى هذا فلا يمكن العمل بأحدهما على سبيل التعيين ; لجواز أن يكون هو المرجوع عنه كما أسلفناه .
وأما إن نص على حكمي الصورتين في وقت واحد ، فهو كما لو نص عليهما في صورة واحدة وقد عرف ما فيه .