اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقال للمجتهد احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب [1] ، فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران [2] بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء .
وقال بجواز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه . أبو علي الجبائي
وقد نقل عن في " كتاب الرسالة " ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ، ومنع من ذلك الباقون . الشافعي
والمختار جوازه دون وقوعه ، لكن لا بد من الإشارة إلى حجج عول عليها المجوزون بعضها يدل على الجواز وبعضها يدل على الوقوع ، والتنبيه على ضعفها كالجاري من [ ص: 210 ] عادتنا ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المعتمد في هذه المسألة .
[3] وقد احتجوا بالنص والإجماع والمعقول .
أما النص : فمن جهة الكتاب والسنة .
أما الكتاب : فقوله تعالى : ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) أضاف التحريم إليه فدل على كونه مفوضا إليه . وأما السنة فمن وجوه :
منها ما روي عن النبي عليه السلام أنه مكة : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " قال له العباس : إلا الإذخر ، فقال النبي عليه السلام : ( إلا الإذخر ) . لما قال في
[4] ومعلوم أن ذلك لم يكن إلا من تلقاء نفسه ، لعلمنا بأن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ، ولولا أن الحكم مفوض إليه لما ساغ ذلك .
ومنها قوله عليه السلام : " " . لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة
[5] ومنها قوله عليه السلام : ( ) . عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق
[6] ومنها ما روي أنه ) لما قيل له : أحجنا هذا لعامنا أم للأبد ؟ فقال : ( بل للأبد ، ولو قلت نعم لوجب [7] أضاف الوجوب والعفو إلى أمره وفعله ، ولولا أنه مفوض إلى اختياره لما جاز .
[ ص: 211 ] ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه أمر مناديا يوم فتح مكة ( ابن صبابة وابن أبي سرح ولو كانا متعلقين بأستار الكعبة ) أن اقتلوا [8] ، ثم عفا عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان [9] ولو كان قد أمر بقتله بوحي لما خالفه بشفاعة عثمان .
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته بنت النضر فأنشدته :
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق .
[10] ولو كان قتله بأمر من الله لما خالفه وإن سمع شعرها .
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه ماعزا رجم ، فقال : " لو كنتم تركتموه حتى أنظر في أمره " لما قيل له : إن [11] وذلك يدل على أن حكم الرجم كان مفوضا إلى رأيه .
ومنها قوله عليه السلام : " " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها [12] ، [ ص: 212 ] وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها " [13] ، وذلك يدل على تفويض الحل والحرمة في ذلك إليه .
وأما الإجماع : فما نقل عن آحاد الصحابة فيما حكم به " إن كان صوابا فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان " أضاف الحكم إلى نفسه ولم ينكر عليه منكر فصار ذلك إجماعا .
ومن ذلك ما شاع وذاع من رجوع آحاد الصحابة عما حكم به أولا من غير نكير عليه ، ولو لم يكن ذلك من تلقاء نفسه بل عن دليل من الشارع لما شاع ذلك منه ، ولما جاز تطابق الصحابة على عدم الإنكار عليه .
وأما المعقول فمن وجوه :
الأول : أنه إذا جاز تفويض الشارع إلى المكلف اختيار واحدة من خصال الكفارة جاز مثله في الأحكام .
الثاني : أنه إذا جاز أن يفوض إلى العامي العمل بما شاء من فتوى أي المجتهدين شاء من غير دليل جاز مثله في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين .
الثالث : أنه إذا جاز الحكم بالأمارة الظنية مع جواز الخطإ فيها عن الصواب جاز الحكم بما يختاره من غير دليل وإن جاز عدوله عن جهة الصواب .
[14] ولقائل أن يجيب عن الآية بأن إسرائيل لم يكن من جملة بنيه حتى يكون داخلا في عموم الآية ، وعند ذلك فيحتمل أن إسرائيل حرم ما حرم على نفسه بالاجتهاد مستندا إلى دليل ظني لا أنه من غير دليل .
وعن الخبر الأول : أنه قد قيل : إن الإذخر ليس من الخلا ، فلا يكون داخلا فيما حرم ، وعلى هذا فإباحته تكون بناء على استصحاب الحال والاستثناء من العباس والنبي عليه السلام كان تأكيدا .
[ ص: 213 ] وبتقدير أن يكون مستثنى حقيقة مما حرم بطريق التأسيس ، لكن من المحتمل أن يكون ذلك بوحي سابق وهو الأولى لقوله تعالى في حق رسوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) أما أن يكون ذلك من تلقاء نفسه من غير دليل فلا .
وعن الخبر الثاني : أنه من الجائز أن الوحي نزل بتخييره في أمرهم بالسواك الشاق عند كل صلاة ، وعدم أمرهم بذلك لا أن أمره لهم بالسواك يكون من تلقاء نفسه ، ويجب اعتقاد ذلك لما سبق في الآية .
وعن الخبر الثالث : أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه ، بمعنى أنه لم يأخذ صدقة الخيل والرقيق منهم ، لا بمعنى أنه المسقط لها ، ودليله ما سبق في الآية .
وعن الخبر الرابع : أن قوله : " " لا يدل على أن الوجوب مستند إلى قوله " نعم " من تلقاء نفسه ، بل لأنه لا يقول ما يقول إلا بوحي لما سبق في الآية . ولو قلت نعم لوجب
وعن الخامس : أنه يجوز أن يكون قد أبيح القتل وتركه بالوحي بدليل ما سبق في الآية ، وهو الجواب عن قصةالنضر بن الحارث وماعز .
وعن الخبر الأخير : أنه إنما نهى وأباح بعد النهي بطريق الوحي لا أن ذلك من تلقاء نفسه .
وعن الإجماع : أما إضافة الخطأ إلى أنفسهم فلا يدل على أن من حكم منهم أنه حكم من غير دليل ، بل يمكن أن يكون حكمه بناء على ما ظنه دليلا ، وهو مخطئ فيه ، ولو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صوابا .
وأما رجوع آحاد الصحابة عما حكم به إلى غيره ، فإنما كان ذلك لظهور الخطأ له فيما ظنه دليلا على الحكم أولا ، وقد سوغ له الحكم به ، أما أن يكون ذلك من غير دليل فلا .
وعن الوجه الأول من المعقول : أنه لا يلزم من التخيير في خصال الكفارة من غير اجتهاد ، جواز ذلك في الأحكام الشرعية بدليل أن العامي له أن يتخير في خصال الكفارة ، ومن قال بجواز التخيير في الأحكام الشرعية لم يقض بجوازه لغير المجتهد ، ولو وقع التساوي بين الصورتين لجاز ذلك للعامي ، وهو ممتنع بالإجماع .
وبمثله يخرج الجواب عن الوجه الثاني .
وعن الوجه الثالث : أنه لا يلزم من جواز [15] العمل بالأمارة مع كونها مفيدة [ ص: 214 ] للظن العمل بالاختيار من غير ظن مفيد للحكم .
والمعتمد في المسألة أن يقال : لو امتنع ذلك إما أن يمتنع لذاته أو لمانع من خارج ، الأول محال ; فإنا إذا قدرناه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل [16] ، وإن كان لمانع من خارج فالأصل عدمه وعلى من يدعيه بيانه .
فإن قيل : يمتنع ذلك ؛ لأن الباري تعالى إنما شرع الشرائع لمصالح العباد ، فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد فاختيار العبد متردد بين أن يكون مصلحة وبين أن يكون مفسدة ، فلا نأمن من اختياره للمفسدة ، وذلك خلاف ما وضعت له الشريعة .
والجواب عن هذا الإشكال : أنه مبني على رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى ، وقد أبطلناه في موضعه [17] ، وإن سلمنا اعتبار ذلك في أفعاله تعالى ، ولكن قد أمنا في ذلك من اختيار المفسدة لقول الله : ( اختر فإنك لا تختار إلا الصواب ) .
[18] فإن قيل : يمتنع على الشارع قول ذلك لاستحالة استمرار المكلف على اختيار الصلاح دون الفساد ، كما لا يجوز اتفاق الأفعال الكثيرة المحكمة من غير علم ، ثم لو جاز ذلك في حق المجتهد لجاز مثله في حق العامي ، وليس كذلك .
قلنا : دليل جواز ذلك من الشارع أنا لو قدرنا وروده منه لم يلزم عنه لذاته محال .
قولهم : إنه لا يتفق اختيار الصلاح في الأفعال الكثيرة .
قلنا : متى إذا أخبر الصادق بذلك أو إذا لم يخبر ؟ [19] الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، وعلى هذا فلو قال للعامي مثل ذلك كان جائزا عقلا ، ثم وإن سلمنا أنه لا يتفق اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة ، لكن متى إذا كانت المصلحة خارجة عن الفعل المختار ، أو إذا كانت المصلحة هي نفس الفعل المختار ، الأول مسلم والثاني ممنوع .
[ ص: 215 ] فإن قيل : فيلزم من ذلك الإباحة وإسقاط التكليف .
قلنا : ليس كذلك بل هو إيجاب التخيير ، وإيجاب التخيير تكليف لا أنه إباحة وإسقاط للتكليف .
فإن قيل : إنما يحسن إيجاب ما يمكن الخلو منه ، ويمتنع الخلو من الفعل والترك فلا يحسن إيجابه .
قلنا : هذا وإن استمر في إيجاب الفعل وتركه فلا يستمر في التخيير بين الأحكام التي يتصور الخلو منها ، كالتخيير بين أن يكون الفعل محرما أو واجبا ، وذلك بأن يقال له : اختر إما التحريم وإما الوجوب ، وأيهما اخترت فلا تختر إلا ما المصلحة فيه .
ولا يخفى جواز الخلو منهما بالإباحة ، وإن سلمنا أن المصلحة خارجة عن نفس الفعل المختار ، وأنه يمتنع اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة ، ولكن ما المانع من ذلك في الأفعال القليلة ؟
فإن قيل : إنه إما أن يكون قد أوجب عليه اختيار ما المصلحة فيه أو خيره بين المصلحة والمفسدة ، فإن كان الأول فقد كلفه ما لا يطاق ; حيث أوجب عليه اختيار المصلحة من غير دليل ، وإن كان الثاني فهو محال على الشارع ; لما فيه من الإذن منه في فعل المفسدة ، وهو خارج عن العدل .
قلنا : إن أوجب عليه اختيار المصلحة وإن كان تكليفا بما لا يطاق ، فهو جائز على ما سبق تقريره ، وإن خيره بين أمرين فلا يمتنع ذلك ، كما أنه يوجب عليه الحكم بما أوجبه ظنه من الأمارة الظنية ، وإن كان مخطئا مرتكبا للمفسدة كما تقرر قبل ، وإذا جاز إيجاب فعل ما هو مفسدة مع عدم علم المكلف به جاز التخيير بين المصلحة والمفسدة مع عدم علم المكلف بذلك .
[20]