[ ص: 239 ] القاعدة الرابعة في الترجيحات
وتشتمل على مقدمة وبابين :
أما المقدمة : ففي بيان معنى الترجيح ، ووجوب العمل بالراجح ، وما فيه الترجيح .
أما : فعبارة عن اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر . الترجيح
فقولنا : ( اقتران أحد الصالحين ) احتراز عما ليسا بصالحين للدلالة ، أو أحدهما صالح والآخر ليس بصالح ، فإن الترجيح إنما يكون مع تحقق التعارض ولا تعارض مع عدم الصلاحية للأمرين أو أحدهما .
وقولنا : ( مع تعارضهما ) احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما ، فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض لا مع عدمه ، وهو عام للمتعارضين مع التوافق في الاقتضاء كالعلل المتعارضة في أصل القياس كما يأتي ، وللمتعارضين مع التنافي في الاقتضاء كالأدلة المتعارضة في الصور المختلف فيها نفيا وإثباتا .
وقولنا : ( بما يوجب العمل بأحدهما وإهمال الآخر ) احتراز عما اختص به أحد الدليلين عن الآخر من الصفات الذاتية أو العرضية ، ولا مدخل له في التقوية والترجيح .
وأما أن واجب فيدل عليه ما نقل وعلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظنين ، وذلك كتقديمهم خبر العمل بالدليل الراجح عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين [1] على خبر [ ص: 240 ] في قوله : " أبي هريرة " إنما الماء من الماء [2] وما روت عن النبي - عليه السلام - أنه كان يصبح جنبا وهو صائم [3] على ما رواه من قوله - عليه السلام - : " أبو هريرة " من أصبح جنبا فلا صوم له [4] ؛ لكونها أعرف بحال النبي - عليه السلام - ، وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها ، ومن فتش عن أحوالهم ونظر في وقائع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب أنهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما .
ويدل على ذلك أيضا تقرير النبي - عليه السلام - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيا على ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض كما سبق تقريره غير مرة [5] ، ولأنه إذا كان أحد الدليلين راجحا ، فالعقلاء يوجبون بعقولهم العمل بالراجح .
والأصل تنزيل التصرفات الشرعية منزلة التصرفات العرفية .
ولهذا قال - عليه السلام - : " " . ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن
[6] فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول .
أما النص : فقوله تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) أمر بالاعتبار مطلقا من غير تفصيل .
[ ص: 241 ] وأيضا قوله - عليه السلام - : " نحن نحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر " .
[7] والدليل المرجوح ظاهر فجاز العمل به .
وأما المعقول : فهو أن الأمارات الظنية المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة ، والترجيح غير معتبر في البينات ، حتى أنه لا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين .
قلنا : أما الآية فغايتها بالنظر والاعتبار ، وليس فيها ما ينافي القول بوجوب العمل بالترجيح ، فإن إيجاب أحد الأمرين لا ينافي إيجاب غيره .
وأما الخبر فيدل على جواز العمل بالظاهر ، والظاهر هو ما ترجح أحد طرفيه على الآخر ومع وجود الدليل الراجح ، فالمرجوح المخالف له لا يكون راجحا من جهة مخالفته للراجح ، فلا يكون ظاهرا فيه .
وأما المعقول فلا نسلم امتناع الترجيح في باب الشهادة ، بل عندنا يقدم قول الأربعة على قول الاثنين على رأي لنا .
وإن سلمنا أنه لا اعتبار بالترجيح في باب الشهادة ، فإنما كان لأن المتبع في ذلك إنما هو إجماع الصحابة ، وقد ألف منهم اعتبار ذلك في باب تعارض الأدلة دون باب الشهادة .
وأما ما فيه الترجيح : فهي الطرق الموصلة إلى المطلوبات ، وهي تنقسم إلى : قطعي . وظني
أما : فلا ترجيح فيه ؛ لأن الترجيح لا بد وأن يكون موجبا لتقوية أحد الطريقين المتعارضين على الآخر ، والمعلوم المقطوع به غير قابل للزيادة والنقصان فلا يطلب فيه الترجيح ، ولأن الترجيح إنما يكون بين متعارضين وذلك غير متصور في القطعي ؛ لأنه إما أن يعارضه قطعي أو ظني . القطعي
الأول : محال لأنه يلزم منه إما العمل بهما ، وهو جمع بين النقيضين في الإثبات ، أو امتناع العمل بهما ، وهو جمع بين النقيضين في النفي ، أو العمل بأحدهما دون الآخر ، ولا أولوية مع التساوي .
والثاني : أيضا محال لامتناع ترجح الظني على القاطع ، وامتناع طلب الترجيح في القاطع .
كيف وأن الدليل القاطع لا يكون في مقابلته دليل صحيح ، فلم يبق سوى الطرق الظنية .
[ ص: 242 ] والطرق الظنية منقسمة إلى شرعية وعقلية ، وليس من غرضنا بيان العقلية بل الشرعية ، وهي : إما أن تكون موصلة إلى الظن بأمر مفرد وهي الحدود ، أو الظن بأمر مركب وهي الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال ، كما سبق تحقيقه ، فلنرسم في ترجيحات كل واحد من الطريقين بابا :