[  167  ] أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي  في التاريخ ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم  [ ص: 332 ] بن عبد الله الأصبهاني ،  أخبرنا أبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس ،  حدثنا  محمد بن إسماعيل البخاري  قال : الحكم بن محمد أبو مروان الطبري  حدثناه ، سمع  ابن عيينة  قال : " أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم  عمرو بن دينار  يقولون :  " القرآن كلام الله ليس بمخلوق   " . 
كذا قال  البخاري :  عن الحكم  ورواه  سلمة بن شبيب ،  عن الحكم بن محمد  قال : حدثنا  سفيان بن عيينة  ، عن  عمرو بن دينار  قال : سمعت مشيختنا منذ سبعين يقولون فذكر معنى هذه الحكاية . 
[  168  ] أخبرنا أبو منصور الفقيه ،  أخبرنا أبو أحمد الحافظ ،  أخبرنا أبو عروبة السلمي  قال : أخبرنا  سلمة بن شبيب ،  فذكره وكذلك رواه غير الحكم بن محمد ،  عن  سفيان  قال  البيهقي  رحمه الله : " مشيخة  عمرو بن دينار  جماعة من الصحابة منهم :  عبد الله  [ ص: 333 ] بن عباس ،   وعبد الله بن عمر  ،  وجابر بن عبد الله  ،  وعبد الله بن الزبير  وأكابر التابعين . 
وروينا هذا القول عن  علي بن الحسين ،  وجعفر بن محمد الصادق ،   ومالك بن أنس  ،  [ ص: 334 ]  [ ص: 335 ]  والليث بن سعد  ،  وسفيان بن عيينة ،   وحماد بن زيد ،   وعبد الله بن المبارك ،   وعبد الرحمن بن مهدي  ،  ومحمد بن إدريس الشافعي  ، ويحيى بن يحيى ،   وأحمد بن حنبل  ، وأبي عبيد ،   ومحمد بن إسماعيل البخاري  في مشيخة أجلة سواهم ، وإنما أحدث هذه البدعة  الجعد بن درهم ،  ومنه كان يأخذ جهم ، فذبحه خالد بن عبد الله القسري  يوم الأضحى . 
قال الأستاذ أبو بكر بن فورك  رحمه الله :  " لو كان كلام الباري جل وعز محدثا كان قبل حدوثه موصوفا بأنه يمنع منه كما لو كان غير عالم كان موصوفا بجهل ، وآفة مانعة منه ،  ولو كان كذلك لما صح أن يتكلم في حال كما لا يصح أن يعلم لو كان لم يزل غير عالم ، فوجب أنه لم يزل متكلما لما لم يلق به أضداد الكلام من السكوت ، والخرس والطفولية . 
وإن شئت قلت : كلام الله عز وجل لو كان مخلوقا ، كان يجب أن يكون موصوفا بضده قبل خلقه له لاستحالة أن يخلو الحي من الكلام وضده ، وضد الكلام لو كان قديما ، لم يجز عدمه وكان يؤدي إلى إحالة ، وصفه بالأمر والنهي ، والخبر وذلك خلاف الدين  [ ص: 336 ] 
ولأن الكلام لو كان مخلوقا كان لا يخلو من أن يخلقه في نفسه (وهذا محال) لاستحالة أن يكون محلا للحوادث ، ويستحيل أن يخلقه في غيره ؛ لأنه ، لو كان مخلوقا في غيره لكان مضافا إلى ذلك الغير بأخص ، أوصافه كسائر الأعراض التي هي علم وقدرة ، وحياة إذا خلقها في غيره ، ولو كان كذلك لم يكن كلاما لله ، ولا أمرا له . 
فإن قيل : يكون كلاما له كما يكون فعله تفضلا له ، وإن كان في غيره قيل : التفضل هو اسم يعم أجناسا ، ونحن قلنا يضاف إليه بأخص أوصافه ، فإن كان قوة أضيفت إلى ما خلقت فيه ، وإن كان سمعا وبصرا ، فكذلك فقولوا : بأنه يضاف إليه باسم الأمر ، والنهي بلفظ الكلام ، والقول فإن لم يضيفوه لا بالأخص ولا بالأعم ، ولا إلى الجملة ، ولا إلى المحل فقد افترق الأمر فيهما . 
إن قيل : لو كان كلامه غير مخلوق لكان لم يزل مخبرا : ( إنا أرسلنا نوحا   ) . 
ولم يزل يرسل ذلك كذب . 
قيل : أوليس قد قال : ( وقال : الشيطان لما قضي الأمر إن الله ، وعدكم وعد الحق   ) إبراهيم ، ولم يقل بعد ، أفهو كذب فإن قال : معناه سيقول . 
قيل ذلك قوله : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه   ) في أزله خبرا عن أن سنرسل نوحا  قبل إرساله ، فإذا أرسل يكذب خبرا عن إرساله أنه وقع من غير أن يحدث خبرا ، كما أن علمه بأن سيكون الدنيا علمه بأنه كائن ، وإذا كان لم يحدث علم إنما حدث المعلوم ، والمخبر عنه دون العلم والخبر . فإن قالوا : لو كان لم يزل متكلما لكان لم يزل آمرا ، وأمر من ليس بموجود محال . 
قيل : من قال من أصحابنا لم يزل آمرا فهو يقول : لم يزل آمرا ، له يكون على معنى إذا خلقت وبلغت ، وكمل عقلك ، فافعل كذا كأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يأتي بعده  [ ص: 337 ] 
ومن قال : لم يزل غير آمر ، وإنما يكون كلامه أمرا لحدوث معنى فنقول : لا يجب إذا كان لم يزل متكلما ، أن يكون لم يزل آمرا ؛ لأن حقيقة الكلام غير حقيقة الأمر ، ولم يكن كلاما ؛ لأنه أمر ، وإنما كان كلاما ؛ لأنه مسموع يفيد معاني المتكلم ، وينفي السكوت ، ويكون أمرا لعلة الإفهام أن كذا يلزمه أن يفعله . 
فإن قيل : لو كان لم يزل متكلما لكان هاذيا إذ لا يسمع كلامه أحد . 
قيل : أليس المسبح لا يسمع كلامه أحد ؟ ، ولا يكون هذيا ، فإن قيل : الله يسمعه ، قيل : فهو يسمع الهذيان أيضا ، ولا يخرجه من أن يكون هذيانا ، ولأن معنى الهذيان أنه كلام لا يفيد ، وكلام الله يفيد المعاني الجليلة . 
فإن احتج محتج بالحروف ، وتأخر بعضها عن بعض وفي ذلك دلالة على الحدث ، وكلام الباري ليس بحروف ، وإنما هو معنى موجود قائم بذاته يسمع ، وتفهم معانيه ، والحروف تكون أدلة عليه كما تكون الكتابة أمارات الكلام ، ودلالات عليه ، وكما يعقل متكلما لا مخارج له ، ولا أدوات كذلك يعقل له كلاما ليس بحروف ولا أصوات ، وقوله : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث   ) دليلنا ؛ لأنه لولا أن في الأذكار ذكرا غير محدث ما كانت له فائدة كما أن من قال : جاءني رجل له رأس ما كانت له فائدة إذ لا يخلو منه رجل . 
ومعنى الذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو نفس الرسول ؛ لأنه هو الذي يأتي في الحقيقة ، وأما النسخ والتبديل والحفظ فكل ذلك راجع إلى الإحكام ، وإلى القراءة الدالة على الكلام لا إلى عين الكلام ، وكذلك التبعيض إنما هو في القراءة الدالة عليه ، والقراءة غير المقروء كما أن ذكر الله غير الله ، وقوله : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا   ) يريد به سميناه كقوله : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا   ) يعني وصفوا الملائكة إناثا "  [ ص: 338 ] 
قال  الحليمي  رحمه الله : " وقوله عز وجل : ( إنه لقول رسول كريم   ) . 
( ولا بقول كاهن   ) . 
وقال : ( إنه لقول رسول كريم  ذي قوة عند ذي العرش مكين  مطاع ثم أمين   ) . 
فإنما معناه إنه لقول رسول كريم أي قول تلقاه عن رسول كريم ، أو قول سمعه عن رسول كريم إذ نزل به عليه رسول كريم ، وقد قال في آية أخرى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله   ) . 
فأثبت أن القرآن كلامه ولا يجوز أن يكون كلامه وكلام جبريل معا ،  فدل أن معناه ما قلنا . 
قال  البيهقي  رحمه الله : " والمقصود من تلك الآية تكذيب المشركين ، فيما كانوا يزعمون من وضع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن ، ثم قد أخبر الله عز وجل أنه هو الذي نزل به الروح الأمين عليه السلام على قلب محمد  صلى الله عليه وسلم ، وأن جبريل  نزل به من عنده ، وبالله التوفيق . 
وأما الوجه الثاني وهو الاعتراف بأنه معجز النظم فقد مضى الكلام فيه ، والإعجاز عند أكثر أصحابنا يقع في قراءة القرآن ،  فنظم حروفه ودلالاته في عين كلامه القديم ، ولما كان الجن والإنس عاجزين عن الإتيان بمثله والملائكة أيضا عاجزون عن الإتيان بمثله ؛ لأنه في قول أكثر أهل العلم ليس من جنس نظوم كلام الناس ، ولا يهتدى إلى وجهه (ليحتذى) ، ويمثل وهو كتركيب الجواهر لتصير أجساما ، وقلب الأعيان إذ كما لا يقدر عليه الجن والإنس لا يقدر عليه الملائكة ، وإنما وقع التحدي عليه للجن والإنس دون الملائكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل إلى الجن ، والإنس دون الملائكة ، وفي ذلك ما أبان أن نظم القرآن ليس من عند جبريل ، ولكنه من عند اللطيف الخبير ، وهذا معنى كلام الحليمي رحمه الله  [ ص: 339 ] 
الوجه الثالث : فبيانه أن الله عز وجل ضمن حفظ القرآن  فقال : ( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون   ) . 
وقال : ( وإنه لكتاب عزيز  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد   ) . 
فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن ، أو نقصانه منه ، أو تحريفه فقد كذب الله في خبره ، وأجاز الخلف فيه ، وذلك كفر . 
وأيضا فإن ذلك لو كان ممكنا لم يكن أحد من المسلمين على ثقة من دينه ، ويقين مما هو متمسك به ؛ لأنه كان لا يأمن أن يكون فيما كتم من القرآن ، أو ضاع بنسخ شيء مما هو ثابت من الأحكام ، أو تبديله بغيره . 
وبسط  الحليمي  رحمه الله الكلام فيه ، فصح أن من تمام الإيمان بالقرآن الاعتراف بأن جميعه هو هذا المتوارث خلفا عن سلف لا زيادة فيه ، ولا نقصان منه ، وبالله التوفيق " . 
				
						
						
