798 - كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ، وذكر هذه الآيات : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=63وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) .
قال :
nindex.php?page=treesubj&link=28656_29674إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها ، فوصل نفعها إلى قلوبهم ، فخشعت لذلك قلوبهم ، وأسماعهم ، وأبصارهم ، فكنت إذا رأيتهم
[ ص: 761 ] رأيت قوما كأنما يرون ما يوعدون رأي المتقين .
أفلا ترى النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلماء من بعده يدلون على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28650التصديق يتفاوت في شدة اليقين ، والبصائر ، وذلك دليل على تحقيق المثل الذي ضربنا .
فإن قال قائل منهم : فلم لا يسمى النظر جزءا من الناظر ، والاستماع جزءا من السمع ، والحمل جزءا من القوى ؟ !قيل لهم : إنما ضربنا لك مثلا لتصديق الذي يكون عند الأعمال ، فلا يختلف أهل اللغة أن النظر من البصر ، والطاقة من القوى ، والاستماع من السمع ، فكذلك هذه الأخلاق من التصديق ، وكلها تضاف إلى الإيمان في الاسم .
فإن قالوا : فليس الاستماع في عينه غير السمع ، والنظر غير البصر ، لأن البصر ، والسمع فعل الله ، والاستماع والنظر فعل العبد .
قيل لهم : هو كذلك ، إلا أن الشيء يكون من الشيء على جهتين ، وإن كانا غيرين ، فأحدهما لا يوجب
[ ص: 762 ] الآخر ، جائز أن يكون ، ولا يكون الآخر ، هل الكلام إلا من اللسان ؟ وجائز أن يكون اللسان ، ولا يكون الكلام ، فأما البصر الصحيح إذا لاقته الأشخاص ، فلا جائز إلا أن يوجب نظر استبانة ، وكذلك الأسماع إذا ظهرت لها الأصوات ، فلا جائز إلا أن توجب دركا للأصوات ، كالنار إذا لاقت الماء ، فلا جائز إلا أن توجب تسخينا ، وكذلك الثلج إذا لاقى الأشياء القابلة للبرد ، فلا جائز إلا أن يوجب تبريدا .
فإن قالوا : قد نرى من النار اليسير الذي لا يوجب مثله التسخين ، ولا الإحراق ، وكذلك الثلج .
قيل لهم : إنه وإن قل كل جزء منها ، فإنه في نفسه مبرد ، ومسخن ، لأنه إذا ضم إلى الآخر الذي من جنسه سخن ، أو أحرق ، أو برد ، فليس منها جزء أوجب التسخين ، والتبريد دون الجزء الآخر ، والذي انفرد لم يكن منه تسخين ، ولا تبريد ، فإذا ضم إلى الأجزاء المسخنة ، والمبردة أخذ بقسطه من التسخين ، أو التبريد ، وكلها موجبة للتسخين ، أو التبريد ، ليس منها جزء موجبا لذلك دون الآخر .
فإن قالوا : أليس إذا انفرد أقل أجزائها على حال ، لم يكن تسخين ، ولا إحراق ، ولا تبريد ؟ !
[ ص: 763 ] قلنا : وإن لم توجب ، فإن فيه التسخين ، والإحراق ، والتبريد .
وكذلك أقل قليل الإيمان ، لا يوجب الخوف المزعج على ترك ما كره الله ، ولا الرجاء المزعج على العمل بما أحب الله ، فإذا انضمت إليه أجزاء من جنسه ، أوجب الخوف المزعج عن كل ما كره الله ، لا يقدر صاحبه على غير ذلك ، ولا يتمالك .
فكذلك الرجاء ، والحب ، والهيبة ، والتعظيم ، والإجلال لله ، والتوكل عليه .
فإن قالوا : فقد وجدنا أقل قليل الإيمان ، إن زايله أقل قليل الخوف ، والرجاء ، والحب لله ، كان كافرا ، ولم يكن مؤمنا ، لأن من لم يحب لله ، فهو كافر ، ومن لا يهابه ، فهو كافر ، لأنه عرف ربه ، واعترف به ، أوجبت معرفته حبه ، وهيبته ، ورجاءه وخوفه .
والدليل على ذلك أنه لو أعطي الدنيا كلها على أن تكفر به ، أو تكذب عليه ، ما فعل ، وإن أتى بكل العصيان ، فدل ذلك على أنه لولا أنه محب ما آثره على كل محبوب من الدنيا ، وكذلك تهابه أن يطلع عليه معتقدا للكفر ، يقبله ، أو قائل عليه بلسانه ، ومن لم يهب غيره من الخلق ، فقد استخف به ، ومن لم يجله ، فقد صغر
[ ص: 764 ] قدره ، فكذلك الخالق ، من لم يهبه ، ولم يجله ، ولم يعرفه .
وكذلك أقل أجزاء النار ، أو الثلج ، قد توجب الحرق ، والتسخين ، لا محالة ، ولو لم يوجبه لكانت النار متقلبة عن شبح النارية ، وكان الثلج متقلبا عن شبح الثلجية .
فإن قالوا : فلسنا نرى ذلك ، ولا نعرفه .
قيل : إنما منعكم من ذلك قلة معرفتكم بالأشياء ، كيف صنعها الله عز وجل ، ونحن نريكم ، ذلك إنما امتنع الأبصار أن ترى ذلك ، أن القليل من النار إذا لاقى جزءا من الحطب أقوى منه ، لم تحرقه ، وغلبه الجزء من الحطب ، فأطفأه ، وإذا لاقى جزءا أضعف منه أحرقه ، أو سخنه .
ومن ذلك أن الشرارة الضعيفة إذا لاقت الحرير أحرقته ، وإذا لاقت ما فوقه من الأشياء ، لم تعمل فيه ، وقهرها بقوة طبعه .
وكذلك الثلج لو ألقيت منه حبة في ماء جار ما وجدت له تبريدا ، ولو ألقيت تلك الحبة على حدقة الإنسان ، أو على لسانه لأحس تبريدها .
ففي هذا دليل على أن طبعها فيها قائم أبدا ، وكذلك
[ ص: 765 ] كل موجب لشيء لا محالة ، فهو منه ، وإن كان غيره على التجزئة ، فإنه مضاف إليه ، لا يمتنع أحد من ذلك أن يضيفه إليه .
فكذلك التصديق يضاف إليه ما هو موجبه لا محالة ، وأنتم تقولون ذلك في غير موضع اضطرارا ، لأنكم نوعان : نوع منكم ، وهم جمهوركم ، وعامتكم يقولون : إن المعرفة لا يكون في عينها إيمانا ، يمنعكم من ذلك شهادة الله تبارك وتعالى على قلوب من سمي بالكفر أنها عالمة ، مؤقنة ، فزعمتم أن المعرفة ليست في عينها إيمانا ، حتى يكون معه الإقرار .
وقالت فرقة : لا تكون المعرفة إيمانا حتى يكون معه الخضوع .
وقالت فرقة : لا تكون المعرفة إيمانا ، حتى يكون معها الخضوع ، والإقرار .
ثم زعم من قال منكم بهذه المقالة على تعرفكم أن الخضوع إيمان مع المعرفة ، والإقرار كذلك ، والتصديق كذلك ، وليست المعرفة هي الخضوع ، ولا الإقرار ، ولا التصديق ، ولكن معرفة أوجبت ذلك كله .
فهل تجدون بين ما قلتم ، وبين ما قال مخالفوكم فرقانا
[ ص: 766 ] إذ سموا إيمانا ما أوجبه التصديق ، وسميتم إيمانا ما أوجبته المعرفة ؟ ! بل هم قد ادعوا الصدق ، وذلك أنهم إنما جعلوا الأعمال إيمانا من المعرفة القوية ، والتصديق القوي يوجبه العمل لا محالة ، لأن المعرفة عندهم التصديق يتفاوت ، وما ادعيتم من المعرفة ، لا يوجب التصديق ، والخضوع لا محالة ، لأنكم تزعمون أن المعرفة لا يتفاوت ، وقد شهد الله ، وأقررتم بذلك أن المعرفة في قلوب الكفار ، فلو كانت توجب الخضوع ، والتصديق ، والإقرار ، ما جامعت الكفر أبدا ، لأن الخضوع ، والإقرار ، والتصديق في قولنا ، وقولكم إيمان ، وهو ضد الكفر ، فلو كانت توجب ذلك ما قارنها الكفر أبدا ، فلما وجدنا عارفا كافرا ، وعارفا مؤمنا عندنا ، وعندكم ، استحال أن توجب المعرفة الإيمان ، إذا كانت لا تتفاوت ، ولا جائز أن توجب خضوعا ، ولا إقرارا أبدا ، إن كانت لا تتفاوت ، فقد زعمتم أن أصل الإيمان المعرفة ، فإذا كان معها الخشوع ، والتصديق ، والإقرار ، كان جميع ذلك إيمانا ، فقد ضممتم إلى المعرفة ما ليس جزءا منها ، ولا هي موجبة له ، فدعوى مخالفيكم في إضافتهم أصدق ، وأبين ، لأن المعرفة عندهم يتفاوت لها أول ، وأعلى ، وكذلك التصديق له أول ، وأعلى ، فإذا
[ ص: 767 ] عظمت المعرفة ، أوجبت العمل لا محالة ، فجعلوا من الإيمان ، وأضافوا إليه ما أوجبه عظيم المعرفة ، والتصديق ، فقد وافقتموهم على مثل ما خالفتموهم ، ويصدق دعواكم ، ولم تقودوا قولكم .
وأعجب من ذلك أن المعرفة عندكم إذا انفردت ليست بإيمان ، فإذا جامعها الخضوع ، والإقرار ، والتصديق صارت المعرفة إيمانا ، فكانت في عينها وحدها ، لا إيمان ، فلما ضم إليها غيرها ، انقلبت ، فصارت إيمانا ؟ !وقال مخالفوكم : الإيمان أصل إذا ضم إليه ، ازداد به ، ولا يتقلب .
وأعجب من ذلك إضافتكم إلى التصديق بالقلب ، القول الذي ليس من المعرفة في شيء ، لأن القول أجزاء مؤلفة في صوت عن حركة لسان ، والمعرفة عقد بضمير القلب ليست بصوت ، ولا حروف ، ولا حركة ، فأضفتم إلى المعرفة ما ليس فيها ، ولا يشبهها ، ولا هي موجبة له ، إلا أن بعضهم يزعم أن التصديق يوجب القول ، وهو ، وإن أوجبه ، فليس القول من تصديق القلب في شيء ، إذ القول حروف مؤلفة في صوت عن حركة ، وليس التصديق بالقلب كذلك ، فأضفتم إليه ما ليس منه ، ولا يشبهه .
ثم زعمتم أنه لا يكون مؤمنا إلا به ، فهذا أعجب من
[ ص: 768 ] قول مخالفيكم ، فقد قايسناكم على اللغة ، والمعقول ، فتبين دحض حجتكم ، وبطلان دعواكم ، وأولى بالحق اتباعه ، من أراد الله وخافه .
798 - كَمَا رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنِ ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=63وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ) .
قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=28656_29674إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ مِنَ اللَّهِ صَدَّقُوا بِهَا ، فَوَصَلَ نَفْعُهَا إِلَى قُلُوبِهِمْ ، فَخَشَعَتْ لِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ ، وَأَسْمَاعُهُمْ ، وَأَبْصَارُهُمْ ، فَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُهُمْ
[ ص: 761 ] رَأَيْتُ قَوْمًا كَأَنَّمَا يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ رَأَيَ الْمُتَّقِينَ .
أَفَلَا تَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْعُلَمَاءَ مِنْ بَعْدِهِ يَدُلُّونَ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28650التَّصْدِيقَ يَتَفَاوَتُ فِي شِدَّةِ الْيَقِينِ ، وَالْبَصَائِرِ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْنَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : فَلِمَ لَا يُسَمَّى النَّظَرُ جُزْءًا مِنَ النَّاظِرِ ، وَالِاسْتِمَاعُ جُزْءًا مِنَ السَّمْعِ ، وَالْحَمْلُ جُزْءًا مِنَ الْقُوَى ؟ !قِيلَ لَهُمْ : إِنَّمَا ضَرَبْنَا لَكَ مَثَلًا لِتَصْدِيقِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ النَّظَرَ مِنَ الْبَصَرِ ، وَالطَّاقَةُ مِنَ الْقُوَى ، وَالِاسْتِمَاعُ مِنَ السَّمْعِ ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مِنَ التَّصْدِيقِ ، وَكُلُّهَا تُضَافُ إِلَى الْإِيمَانِ فِي الِاسْمِ .
فَإِنْ قَالُوا : فَلَيْسَ الِاسْتِمَاعُ فِي عَيْنِهِ غَيْرُ السَّمْعِ ، وَالنَّظَرُ غَيْرُ الْبَصَرِ ، لِأَنَّ الْبَصَرَ ، وَالسَّمْعَ فِعْلُ اللَّهِ ، وَالِاسْتِمَاعُ وَالنَّظَرُ فِعْلُ الْعَبْدِ .
قِيلَ لَهُمْ : هُوَ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى جِهَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَيْنِ ، فَأَحَدُهُمَا لَا يُوجِبُ
[ ص: 762 ] الْآخَرَ ، جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ، وَلَا يَكُونَ الْآخَرُ ، هَلِ الْكَلَامُ إِلَّا مِنَ اللِّسَانِ ؟ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ ، وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ ، فَأَمَّا الْبَصَرُ الصَّحِيحُ إِذَا لَاقَتْهُ الْأَشْخَاصُ ، فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ يُوجِبَ نَظَرَ اسْتِبَانَةٍ ، وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاعُ إِذَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَصْوَاتُ ، فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ تُوجِبَ دَرَكًا لِلْأَصْوَاتِ ، كَالنَّارِ إِذَا لَاقَتِ الْمَاءَ ، فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ تُوجِبَ تَسْخِينًا ، وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ إِذَا لَاقَى الْأَشْيَاءَ الْقَابِلَةَ لِلْبَرْدِ ، فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ يُوجِبَ تَبْرِيدًا .
فَإِنْ قَالُوا : قَدْ نَرَى مِنَ النَّارِ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُوجِبُ مِثْلَهُ التَّسْخِينُ ، وَلَا الْإِحْرَاقُ ، وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ .
قِيلَ لَهُمْ : إِنَّهُ وَإِنْ قَلَّ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُبَرِّدٌ ، وَمُسَخِّنٌ ، لِأَنَّهُ إِذَا ضُمَّ إِلَى الْآخَرِ الَّذِي مِنْ جِنْسِهِ سَخَّنَ ، أَوْ أَحْرَقَ ، أَوْ بَرَّدَ ، فَلَيْسَ مِنْهَا جُزْءٌ أَوْجَبَ التَّسْخِينَ ، وَالتَّبْرِيدَ دُونَ الْجُزْءِ الْآخَرِ ، وَالَّذِي انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَسْخِينٌ ، وَلَا تَبْرِيدٌ ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْمُسَخَّنَةِ ، وَالْمُبَرَّدَةِ أَخَذَ بِقِسْطِهِ مِنَ التَّسْخِينِ ، أَوِ التَّبْرِيدِ ، وَكُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّسْخِينِ ، أَوِ التَّبْرِيدِ ، لَيْسَ مِنْهَا جُزْءٌ مُوجِبًا لِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ .
فَإِنْ قَالُوا : أَلَيْسَ إِذَا انْفَرَدَ أَقَلُّ أَجْزَائِهَا عَلَى حَالٍ ، لَمْ يَكُنْ تَسْخِينٌ ، وَلَا إِحْرَاقٌ ، وَلَا تَبْرِيدٌ ؟ !
[ ص: 763 ] قُلْنَا : وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ ، فَإِنَّ فِيهِ التَّسْخِينُ ، وَالْإِحْرَاقُ ، وَالتَّبْرِيدُ .
وَكَذَلِكَ أَقَلُّ قَلِيلِ الْإِيمَانِ ، لَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الْمُزْعِجَ عَلَى تَرْكِ مَا كَرِهَ اللَّهُ ، وَلَا الرَّجَاءَ الْمُزْعِجَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَحَبَّ اللَّهُ ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ أَجْزَاءٌ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْجَبَ الْخَوْفَ الْمُزْعِجَ عَنْ كُلِّ مَا كَرِهَ اللَّهُ ، لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَمَالَكُ .
فَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ ، وَالْحُبُّ ، وَالْهَيْبَةُ ، وَالتَّعْظِيمُ ، وَالْإِجْلَالُ لِلَّهِ ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالُوا : فَقَدْ وَجَدْنَا أَقَلَّ قَلِيلِ الْإِيمَانِ ، إِنْ زَايَلَهُ أَقَلُّ قَلِيلِ الْخَوْفِ ، وَالرَّجَاءِ ، وَالْحُبِّ لِلَّهِ ، كَانَ كَافِرًا ، وَلَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ لِلَّهِ ، فَهُوَ كَافِرٌ ، وَمَنْ لَا يَهَابُهُ ، فَهُوَ كَافِرٌ ، لِأَنَّهُ عَرَفَ رَبَّهُ ، وَاعْتَرَفَ بِهِ ، أَوْجَبَتْ مَعْرِفَتُهُ حُبَّهُ ، وَهَيْبَتَهُ ، وَرَجَاءَهُ وَخَوْفَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أُعْطِي الدُّنْيَا كُلَّهَا عَلَى أَنْ تَكْفُرَ بِهِ ، أَوْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ ، مَا فَعَلَ ، وَإِنْ أَتَى بِكُلِّ الْعِصْيَانِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ مُحِبٌّ مَا آثَرَهُ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَكَذَلِكَ تَهَابُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا لِلْكُفْرِ ، يَقْبَلُهُ ، أَوْ قَائِلٌ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَهَبْ غَيْرُهُ مِنَ الْخَلْقِ ، فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يُجِلَّهُ ، فَقَدْ صَغَّرَ
[ ص: 764 ] قَدْرَهُ ، فَكَذَلِكَ الْخَالِقُ ، مَنْ لَمْ يَهَبْهُ ، وَلَمْ يُجِلَّهُ ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ .
وَكَذَلِكَ أَقَلُّ أَجْزَاءِ النَّارَ ، أَوِ الثَّلْجِ ، قَدْ تُوجِبُ الْحَرْقَ ، وَالتَّسْخِينَ ، لَا مَحَالَةَ ، وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَكَانَتِ النَّارُ مُتَقَلِّبَةً عَنْ شَبَحِ النَّارِيَّةِ ، وَكَانَ الثَّلْجُ مُتَقَلِّبًا عَنْ شَبَحِ الثَّلْجِيَّةِ .
فَإِنْ قَالُوا : فَلَسْنَا نَرَى ذَلِكَ ، وَلَا نَعْرِفُهُ .
قِيلَ : إِنَّمَا مَنَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةُ مَعْرِفَتِكُمْ بِالْأَشْيَاءِ ، كَيْفَ صَنَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَنَحْنُ نُرِيكُمْ ، ذَلِكَ إِنَّمَا امْتَنَعَ الْأَبْصَارُ أَنْ تَرَى ذَلِكَ ، أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ النَّارِ إِذَا لَاقَى جُزْءًا مِنَ الْحَطَبِ أَقْوَى مِنْهُ ، لَمْ تُحْرِقْهُ ، وَغَلَبَهُ الْجُزْءُ مِنَ الْحَطَبِ ، فَأَطْفَأَهُ ، وَإِذَا لَاقَى جُزْءًا أَضْعَفَ مِنْهُ أَحْرَقَهُ ، أَوْ سَخَّنَهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرَارَةَ الضَّعِيفَةَ إِذَا لَاقَتِ الْحَرِيرَ أَحْرَقَتْهُ ، وَإِذَا لَاقَتْ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ ، وَقَهَرَهَا بِقُوَّةِ طَبْعِهِ .
وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ لَوْ أُلْقِيَتْ مِنْهُ حَبَّةٌ فِي مَاءٍ جَارٍ مَا وَجَدْتَ لَهُ تَبْرِيدًا ، وَلَوْ أُلْقِيَتْ تِلْكَ الْحَبَّةُ عَلَى حَدَقَةِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ عَلَى لِسَانِهِ لَأَحَسَّ تَبْرِيدَهَا .
فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَبْعَهَا فِيهَا قَائِمٌ أَبَدًا ، وَكَذَلِكَ
[ ص: 765 ] كُلُّ مُوجِبٌ لِشَيْءٍ لَا مَحَالَةَ ، فَهُوَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ عَلَى التَّجْزِئَةِ ، فَإِنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ ، لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُضِيفُهُ إِلَيْهِ .
فَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ يُضَافُ إِلَيْهِ مَا هُوَ مُوجِبُهُ لَا مَحَالَةَ ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اضْطِرَارًا ، لِأَنَّكُمْ نَوْعَانِ : نَوْعٌ مِنْكُمْ ، وَهُمْ جُمْهُورُكُمْ ، وَعَامَّتُكُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَكُونُ فِي عَيْنِهَا إِيمَانًا ، يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى قُلُوبِ مَنْ سُمِّيَ بِالْكُفْرِ أَنَّهَا عَالِمَةٌ ، مُؤْقِنَةٌ ، فَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ فِي عَيْنِهَا إِيمَانًا ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ .
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : لَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ الْخُضُوعُ .
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : لَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا الْخُضُوعُ ، وَالْإِقْرَارُ .
ثُمَّ زَعَمَ مَنْ قَالَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَى تَعَرُّفِكُمْ أَنَّ الْخُضُوعَ إِيمَانٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ ، وَالْإِقْرَارُ كَذَلِكَ ، وَالتَّصْدِيقُ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ هِيَ الْخُضُوعُ ، وَلَا الْإِقْرَارُ ، وَلَا التَّصْدِيقُ ، وَلَكِنْ مَعْرِفَةٌ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ .
فَهَلْ تَجِدُونَ بَيْنَ مَا قُلْتُمْ ، وَبَيْنَ مَا قَالَ مُخَالِفُوكُمْ فُرْقَانًا
[ ص: 766 ] إِذْ سَمَّوْا إِيمَانًا مَا أَوْجَبُهُ التَّصْدِيقُ ، وَسَمَّيْتُمْ إِيمَانًا مَا أَوْجَبَتْهُ الْمَعْرِفَةُ ؟ ! بَلْ هُمْ قَدِ ادَّعَوُا الصِّدْقَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَعَلُوا الْأَعْمَالَ إِيمَانًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ الْقَوِيَّةِ ، وَالتَّصْدِيقُ الْقَوِيُّ يُوجِبُهُ الْعَمَلُ لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمُ التَّصْدِيقُ يَتَفَاوَتُ ، وَمَا ادَّعَيْتُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ ، لَا يُوجِبُ التَّصْدِيقَ ، وَالْخُضُوعَ لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ ، وَأَقْرَرْتُمْ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ ، فَلَوْ كَانَتْ تُوجِبُ الْخُضُوعَ ، وَالتَّصْدِيقَ ، وَالْإِقْرَارَ ، مَا جَامَعَتِ الْكُفْرَ أَبَدًا ، لِأَنَّ الْخُضُوعَ ، وَالْإِقْرَارَ ، وَالتَّصْدِيقَ فِي قَوْلِنَا ، وَقَوْلِكُمْ إِيمَانٌ ، وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ ، فَلَوْ كَانَتْ تُوجِبُ ذَلِكَ مَا قَارَنَهَا الْكُفْرُ أَبَدًا ، فَلَمَّا وَجَدْنَا عَارِفًا كَافِرًا ، وَعَارِفًا مُؤْمِنًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَكُمُ ، اسْتَحَالَ أَنْ تُوجِبَ الْمَعْرِفَةُ الْإِيمَانَ ، إِذَا كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تُوجِبَ خُضُوعًا ، وَلَا إِقْرَارًا أَبَدًا ، إِنْ كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ ، فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ الْمَعْرِفَةَ ، فَإِذَا كَانَ مَعَهَا الْخُشُوعُ ، وَالتَّصْدِيقُ ، وَالْإِقْرَارُ ، كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ إِيمَانًا ، فَقَدْ ضَمَمْتُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ جُزْءًا مِنْهَا ، وَلَا هِيَ مُوجِبَةٌ لَهُ ، فَدَعْوَى مُخَالِفِيكُمْ فِي إِضَافَتِهِمْ أَصْدَقُ ، وَأَبَيَنُ ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ يَتَفَاوَتُ لَهَا أَوَّلٌ ، وَأَعْلَى ، وَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ لَهُ أَوَّلٌ ، وَأَعْلَى ، فَإِذَا
[ ص: 767 ] عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ ، أَوْجَبَتِ الْعَمَلَ لَا مَحَالَةَ ، فَجَعَلُوا مِنَ الْإِيمَانِ ، وَأَضَافُوا إِلَيْهِ مَا أَوْجَبَهُ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ ، وَالتَّصْدِيقِ ، فَقَدْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا خَالَفُتُمُوهُمْ ، وَيُصَدِّقُ دَعْوَاكُمْ ، وَلَمْ تَقُودُوا قَوْلَكُمْ .
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَكُمْ إِذَا انْفَرَدَتْ لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ ، فَإِذَا جَامَعَهَا الْخُضُوعُ ، وَالْإِقْرَارُ ، وَالتَّصْدِيقُ صَارَتِ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا ، فَكَانَتْ فِي عَيْنِهَا وَحْدَهَا ، لَا إِيمَانَ ، فَلَمَّا ضُمَّ إِلَيْهَا غَيْرُهَا ، انْقَلَبَتْ ، فَصَارَتْ إِيمَانًا ؟ !وَقَالَ مُخَالِفُوكُمُ : الْإِيمَانُ أَصْلٌ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ ، ازْدَادَ بِهِ ، وَلَا يَتَقَلَّبُ .
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِضَافَتُكُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ ، الْقَوْلَ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّ الْقَوْلَ أَجْزَاءٌ مُؤَلَّفَةٌ فِي صَوْتٍ عَنْ حَرَكَةِ لِسَانٍ ، وَالْمَعْرِفَةُ عَقْدٌ بِضَمِيرِ الْقَلْبِ لَيْسَتْ بِصَوْتٍ ، وَلَا حُرُوفٍ ، وَلَا حَرَكَةٍ ، فَأَضَفْتُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا ، وَلَا يُشْبِهُهَا ، وَلَا هِيَ مُوجِبَةٌ لَهُ ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يُوجِبُ الْقَوْلَ ، وَهُوَ ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ ، فَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فِي شَيْءٍ ، إِذِ الْقَوْلُ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ فِي صَوْتٍ عَنْ حَرَكَةٍ ، وَلَيْسَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ كَذَلِكَ ، فَأَضَفْتُمْ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَلَا يُشْبِهُهُ .
ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهِ ، فَهَذَا أَعْجَبُ مَنْ
[ ص: 768 ] قَوْلِ مُخَالِفِيكُمْ ، فَقَدْ قَايَسْنَاكُمْ عَلَى اللُّغَةِ ، وَالْمَعْقُولِ ، فَتَبَيَّنَ دَحْضُ حُجَّتِكُمْ ، وَبُطْلَانُ دَعْوَاكُمْ ، وَأَوْلَى بِالْحَقِّ اتِّبَاعِهِ ، مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَخَافَهُ .