1282 - حدثنا
ابن أبي حازم الكوفي ، قال : سمعت
أبا محمد الإسكاف ، يقول : " سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الرازي ، يقول : من أحب أن يفرح بالله ويتمتع بعبادة الله ، فلا يسألن عن سر الله (يعني : القدر) " .
قال الشيخ رضي الله عنه : فإن قال قائل : قد رويت هذه الأحاديث في
nindex.php?page=treesubj&link=28789الإمساك عن الكلام في القدر والنظر فيه ، ومع هذا فقد روي عن رسول الله
[ ص: 244 ] صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعن جماعة من التابعين وفقهاء المسلمين أنهم تكلموا فيه ، وفسروا آيات من القرآن يدل ظاهرها وتفسيرها على العلم بالقدر ، وقد رأينا جماعة من العلماء ألفوا فيه كتبا وصنفوه أبوابا .
ورووا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" تعلموا من القدر ما لا تضلون " ، وهذا مخالف لقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=939951 " إذا ذكر القدر ؛ فأمسكوا " ، فإني أرجع إليه بجواب ما سأل عنه من ذلك بأن أقول له : اعلم رحمك الله أن كلا الوجهين صحيحان ، وكلا الأمرين واجب القبول لهما والعمل بهما ، وذلك أن القدر على وجهين ، وأمر النجوم على وجهين ، وأمر الصحابة على وجهين :
فأما أمر النجوم :
فأحدهما واجب علمه والعمل به ، فأما ما يجب علمه والعمل به ، فهو أن يتعلم من النجوم ما يهتدي به في ظلمات البر والبحر ، ويعرف به القبلة والصلاة والطرقات ، فبهذا العلم من النجوم نطق الكتاب ومضت السنة .
وأما ما لا يجوز النظر فيه والتصديق به ، ويجب علينا الإمساك عنه من
nindex.php?page=treesubj&link=31762علم النجوم ، فهو أن لا يحكم للنجوم بفعل ، ولا يقضي لها بحدوث أمره كما يدعي الجاهلون من علم الغيوب بعلم النجوم ، ولا قوة إلا بالله .
وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=28813_28811أمر الصحابة رحمة الله عليهم ، فأمرهم على وجهين : [ ص: 245 ]
أحدهما : فرض علينا علمه والعمل به .
والآخر : واجب علينا الإمساك عنه وترك المسألة والبحث والتنقير عنه :
فأما الواجب علينا علمه والعمل به ، فهو ما أنزل الله في كتابه من وصفهم ، وما ذكره من عظيم أقدارهم ، وعلو شرفهم ، ومحل رتبهم ، وما أمرنا به من الاتباع لهم بإحسان مع الاستغفار لهم ، وعلم ما جاءت به السنة من فضائلهم ومناقبهم ، وعلم ما يجب علينا حبهم لأجله من فضلهم وعلمهم ، ونشر ذلك عنهم ، لتنحاش القلوب إلى طاعتهم ، وتتألف على محبتهم ، فهذا كله واجب علينا علمه والعمل به ، ومن كمال ديننا طلبه .
وأما ما يجب علينا تركه ، وفرض علينا الإمساك عنه ، وحرام علينا الفحص والتنقير عنه ، هو النظر فيما شجر بينهم ، والخلق الذي كان جرى منهم لأنه أمر مشتبه ، ونرجئ الشبهة إلى الله ، ولا تميل مع بعضهم على بعض ، ولا نظلم أحدا منهم ، ولا نخرج أحدا منهم من الإيمان ، ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض ، ولا نسب أحدا منهم لسبه صاحبه ، ولا نقتدي بأحد منهم في شيء جرى منه على صاحبه ، ونشهد أنهم كلهم على هدى وتقى وخالص إيمان ، لأنا على يقين - من نص التنزيل وقول الرسول - أنهم أفضل الخلق وخيره بعد نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأن أحدا ممن أتى بعدهم ولو جاء بأعمال الثقلين الإنس والجن من أعمال البر ، ولو لقي الله تعالى ولا ذنب له ولا خطيئة عليه ؛ لما بلغ ذلك أصغر صغيرة من حسنات أدناهم ، وما فيهم دني ، ولا شيء
[ ص: 246 ] من حسناتهم صغير ، والحمد لله .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28789القدر فعلى وجهين :
أحدهما : فرض علينا علمه ومعرفته ، والإيمان به والتصديق بجميعه . والآخر : فحرام علينا التفكر فيه ، والمسألة عنه ، والمناظرة عليه ، والكلام لأهله ، والخصومة به .
فأما الواجب علينا علمه والتصديق به والإقرار بجميعه ؛ أن نعلم أن الخير والشر من الله ، وأن الطاعة والمعصية بقضاء الله وقدره ، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا ، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، علمهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ووفقهم لأعمال صالحة رضيها أمرهم بها ، فوفقهم لها ، وأعانهم عليها ، وشكرهم بها ، وأثابهم الجنة عليها تفضلا منه ورحمة ، وخلق النار وخلق لها أهلا ، أحصاهم عددا ، وعلم ما يكون منهم ، وقدر عليهم ما كرهه لهم ، خذلهم بها وعذبهم لأجلها غير ظالم لهم ولا هم معذورون فيما حكم عليهم به ، فكل هذا وأشباهه من علم القدر الذي لزم الخلق علمه والإيمان به والتسليم لأمر الله وحكمه وقضائه وقدره ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وسيأتي من علم القدر وما يجب على المسلمين علمه والمعرفة به وما لا يسعهم جهله مشروحا مفصلا في أبوابه على ما جاء به نص التنزيل ، ومضت به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبالله نستعين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
[ ص: 247 ]
وأما الوجه الآخر من علم القدر الذي لا يحل النظر فيه ولا الفكر به ، وحرام على الخلق القول فيه كيف ولم وما السبب ، مما هو سر الله المخزون وعلمه المكتوم الذي لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ، وحجب العقول عن تخيل كنه علمه ، والناظر فيه كالناظر في عين الشمس ، كلما ازداد فيه نظرا ؛ ازداد فيه تحيرا ، ومن العلم بكيفيتها بعدا ، فهو التفكر في الرب عز وجل كيف فعل كذا وكذا ، ثم يقيس فعل الله عز وجل بفعل عباده ، فما رآه من فعل العباد جورا يظن أن ما كان من فعل مثله جور ، فينفي ذلك الفعل عن الله ، فيصير بين أمرين ، إما أن يعترف لله عز وجل بقضائه وقدره ويرى أنه جور من فعله ، وإما أن يرى أنه ممن ينزه الله عن الجور ، فينفي عنه قضاءه وقدره ، فيجعل مع الله آلهة كثيرة يحولون بين الله وبين مشيئته ، فبالفكر في هذا وشبهه والتفكر فيه والبحث والتنقير عنه ، هلكت القدرية حتى صاروا زنادقة وملحدة ومجوسا ، حيث قاسوا فعل الرب بأفعال العباد ، وشبهوا الله بخلقه ولم يعوا عنه ما خاطبهم به ، حيث يقول
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فمما لا يحل لأحد أن يتفكر فيه ولا يسأل عنه ، ولا يقول فيه لم لا ينبغي لأحد أن يتفكر ، لم خلق الله إبليس وهو قد علم قبل أن يخلقه أنه سيعصيه ، وأن سيكون عدوا له ولأوليائه ؟ ولو كان هذا من فعل المخلوقين إذا علم أحدهم أنه إذا اشترى عبدا يكون عدوا له ولأوليائه ، ومضادا له في محابه ، وعاصيا له في أمره ، ولو فعل ذلك لقال أولياؤه وأحباؤه : إن هذا خطأ وضعف رأي وفساد نظام الحكمة ، فمن تفكر في نفسه وظن أن الله لم يصب في فعله حيث خلق إبليس فقد كفر ، ومن قال : إن الله لم يعلم قبل أن يخلق إبليس أنه يخلق إبليس عدوا
[ ص: 248 ] له ولأوليائه فقد كفر ، ومن قال : إن الله لم يخلق إبليس أصلا فقد كفر .
وهذا قول الزنادقة الملحدة ، فالذي يلزم المسلمين من هذا أن يعلموا أن الله خلق إبليس وقد علم منه جميع أفعاله ولذلك خلقه ، ويعلموا أن فعل الله ذلك عدل صواب ، وفي جميع أفعاله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ومما يجب على العباد علمه وحرام عليهم أن يتفكروا فيه ويعارضوه بآرائهم ويقيسوه بعقولهم وأفعالهم ، لا ينبغي لأحد أن يتفكر لم جعل الله لإبليس سلطانا على عباده وهو عدوه وعدوهم مخالف له في دينه ، ثم جعل له الخلد والبقاء في الدنيا إلى النفخة الأولى ، وهو قادر على أن لا يجعل له ذلك ، لو شاء أن يهلكه من ساعته لفعل ، ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأ ، وكان يجب في أحكام العدل من العباد أن إذا كان لأحدهم عبد وهو عدو له ولأحبائه ومخالف لدينه ومضاد له في محبته أن يهلكه من ساعته ، وإذا علم أنه يضل عبيده ويفسدهم ، ففي حكم العقل والعدل من العبادات أن لا يسلطه على شيء من الأشياء ، ولا يجعل له سلطانا ولا مقدرة ، ولو سلطه عليهم ؛ كان ذلك من فعله عند الباقين من عباده ظلما وجورا حيث سلط عليهم من يفسدهم عليه ويضاده فيهم ، وهو عالم بذلك من فعله ، وقادر على منعه وهلكته ، فممن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل حين جعل لإبليس الخلد والبقاء وسلطه على بني
آدم فقد كفر ، ومن زعم أن الله عز وجل لم يقدر أن يهلك إبليس من ساعته حين أغوى عباده فقد كفر ، وهذا من الباب الذي يرد علمه إلى الله ولا يقال فيه لم ولا كيف
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ومن ذلك نوع آخر : أن الله عز وجل جعل لإبليس وذريته أن يأتوا بني
آدم في جميع أطراف الأرض ، يأتونهم من حيث لا يرونهم لقوله عز وجل
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم وجعلهم يجرون من بني
آدم مجرى
[ ص: 249 ] الدم ، ولم يجعل للرسل من بني
آدم من السلطان مثل ما جعل لهم ، ولو كان هذا في أحكام العباد لكان من العدل بينهم أن يكون مع إبليس وذريته علامة كعلامة السلطان ، أو يكون عليهم أجراس يعرفونهم بها ، ويسمعون حسهم فيأخذون حذرهم منهم ، حتى إذا جاؤوا من بعيد علم العباد أنهم هم الذين يضلون الناس ، فيأخذون حذرهم ، أو يجعل للرسل أن يزينوا ويوصلوا إلى صدور الناس من طاعة الله كما يوسوس الشيطان ذريته ويزينوا لهم المعصية ، فلو فعل ذلك كان عند عبيده الباقين ظلما وجورا لأن العباد لا يعلمون الغيب فيأخذوا حذرهم من إبليس ، والرسل لا يستطيعون أن يزينوا في قلوب العباد طاعة الله ومعرفته كما يزين الشيطان في قلوب العباد معصيته بالوسوسة ، فمن قال : إن الله لم يجعل لإبليس وذريته سلطانا أن يأتوا على جميع بني
آدم من حيث لا يرونهم ويوسوس في صدورهم المعاصي فقد كفر ، ومن قال : إن الله لم يعدل حيث جعل لإبليس وذريته هذا السلطان على بني
آدم فقد كفر ، وهذا أيضا من الباب الذي يرد علمه مع الإيمان به والتسليم فيه إليه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ومن ذلك أيضا لا ينبغي لأحد أن يتفكر لم سلط الله الكفار على الرسل في الدنيا ، وسلط الكافرين على المؤمنين حتى قتلوهم وعذبوهم ، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس ، وإنما سلط الله أعداءه على أوليائه ليكرم أولياءه في الآخرة بهوان أعدائه ، وهو قادر على أن يمنع الكافرين من المؤمنين ويهلك الكفار من ساعته ، ولو كان هذا من أفعال بعض ملوك العباد ؛ كان جورا عند أهل مملكته حيث سلط أعداءه على أنصاره وأوليائه وهو قادر على هلكتهم من
[ ص: 250 ] وقتهم ، فمن تفكر في نفسه فظن أن هذا جور من فعل الله حيث سلط الكفار على المؤمنين فقد كفر ، ومن قال : إن الله لم يسلطهم وإنما الكفار قتلوا أنبياء الله وأولياءه بقوتهم واستطاعتهم ، وأن الله لم يقدر أن ينصر أنبياءه وأولياءه حتى غلبوه وحالوا بينه وبين من أحب نصره وتمكينه ؛ فمن ظن هذا فقد كفر ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، لا يشبه عدله عدل المخلوقين ، كما أن شيئا من الخلق لا يشبهه .
وخصلة أخرى أنه لا ينبغي لأحد أن يتفكر لم مكن الله لأعدائه في البلاد ، وأعانهم بقوة الأبدان ورشاقة الأجسام ، وأيدهم بالسلاح والدواب ، ثم أمر أنبياءه وأولياءه أن يعدوا لهم السلاح والقوة ، وأن يحاربوهم ويقاتلوهم ، ووعدهم أن يمدهم بالملائكة ، ثم قال هو لنفسه : إني معكم على قتال عدوكم وهو قادر على أن يهلك أعداءه من وقته بأي أنواع الهلاك شاء ، من غير حرب ولا قتال ، وبغير أنصار ولا سلاح ، فلو كان هذا من أفعال العباد وأحكامهم ؛ لكان جورا وفسادا أن يقوي أعداءه على أوليائه ، ويمدهم بالعدة ، ويؤيدهم بالخيل والسلاح والقوة ، ثم يندب أولياءه لمحاربتهم ، فمن قال : إن العدة والقوة والسلاح الذي في أعداء الله ليس هو من فعل الله بهم وعطية الله لهم فقد كفر ، ومن قال : إن ذلك من فعل الله بهم وعطيته لهم وهو جور من فعله فقد كفر ، ومن قال : إن الله أعطاهم وقواهم ولم يقدر أن يسلبهم إياه ويهلكهم من ساعته فقد كفر ، وهذا مما يجب الإيمان به والتسليم له ، وأن الله خلق أعداءه وقواهم وسلطهم ، ولو شاء أن يهلكهم لفعل ، والله أعدل في ذلك كله ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ومما لا ينبغي لأحد أن يتفكر فيه ، لا ينبغي لأحد أن يضمر في نفسه
[ ص: 251 ] فيقول : لم خلق الله الحيات والعقارب والهوام والسباع التي تضر بني
آدم ولا تنفعهم وسلطها على بني
آدم ، ولو شاء أن لا يخلقها ما خلقها ، ولو كان هذا من فعل ملوك العباد لقال أهل مملكته : هذا غش لنا ومضرة علينا بغير حق حيث جعل معنا ما يضر بنا ولا ننتفع نحن ولا هو به ، فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل حيث خلق الحيات والعقارب والسباع وكلما يؤذي بني
آدم ولا ينفعهم فقد كفر ، ومن قال : إن لهذه الأشياء خالقا غير الله فقد كفر ، وهذا قول الزنادقة والمجوس وطائفة من القدرية ، فهذا مما يجب على المسلمين الإيمان به ، وأن يعلم أن الله خلق هذه الأشياء كلها وعلم أنها تضر بعباده وتؤذيهم وهو عدل من فعله وهو أعلم بما خلق
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وخصلة أخرى لا ينبغي لأحد أن يتفكر ويضمر في نفسه ، لم ترك الله العباد حتى يجحدوه ويشركوا به ويعصوه ، ثم يعذبهم على ذلك وهو قادر على هدايتهم ، وهو قادر أن يمنع قلوبهم أن تدخلها شهوة شيء من معصيته ، أو محبة شيء من مخالفته ، وهو القادر على أن يبغض إلى الخلق أجمعين معصيته ومخالفته ، وقادر على أن يهلك من هم بمعصيته مع همته ، وهو قادر على أن يجعلهم كلهم على أفضل عمل عبد من أوليائه ، فلم لم يفعل ذلك ؟ فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل حيث لم يمنع المشركين من أن يشركوا به ، ولم يمنع القلوب أن يدخلها حب شيء من معصيته ، ولم يهد العباد كلهم فقد كفر ، ومن قال : إن الله أراد هداية الخلق وطاعتهم له وأراد أن لا يعصيه أحد ولا يكفر أحد فلم يقدر فقد كفر ، ومن قال : إن الله قدر على هداية
[ ص: 252 ] الخلق وعصمتهم من معصيته ومخالفته ، فلم يفعل ذلك وهو جور من فعله فقد كفر ، وهذا مما يجب الإيمان به والتسليم له ، وترك الخوض فيه والمسألة عنه ، وهو أن يعلم العبد أن الله عز وجل خلق الكفار وأمرهم بالإيمان وحال بينهم وبين الإيمان ، وخلق العصاة وأمرهم بالطاعة وجعل حب المعاصي في قلوبهم ، فعصوه بنعمته ، وخالفوه بما أعطاهم من قوته ، وحال بينهم وبين ما أمرهم به ، وهو يعذبهم على ذلك ، وهم مع ذلك ملومون غير معذورين ، والله عز وجل عدل في فعله ذلك بهم ، وغير ظالم لهم ، ولله الحجة على الناس جميعا ، له الخلق والأمر تبارك وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فهذا من علم القدر الذي لا يحل البحث عنه ولا الكلام فيه ، ولا التفكر فيه ، وبكل ذلك مما قد ذكرته وما أنا ذاكره ؛ نزل القرآن ، وجاءت السنة ، وأجمع المسلمون من أهل التوحيد عليه ، لا يرد ذلك ولا ينكره إلا قدري خبيث مشوم قد زاغ قلبه وألحد في دين الله وكفر بالله ؛ وسأذكر الآيات في ذلك من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
[ ص: 253 ]
1282 - حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ الْكُوفِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ
أَبَا مُحَمَّدٍ الْإِسْكَافَ ، يَقُولُ : " سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=17335يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ الرَّازِيَّ ، يَقُولُ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَفْرَحَ بِاللَّهِ وَيَتَمَتَّعَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ ، فَلَا يَسْأَلَنَّ عَنْ سِرِّ اللَّهِ (يَعْنِي : الْقَدَرَ) " .
قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28789الْإِمْسَاكِ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ وَالنَّظَرِ فِيهِ ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
[ ص: 244 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ ، وَفَسَّرُوا آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ ظَاهِرُهَا وَتَفْسِيرُهَا عَلَى الْعِلْمِ بِالْقَدَرِ ، وَقَدْ رَأَيْنَا جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفُوا فِيهِ كُتُبًا وَصَنَّفُوهُ أَبْوَابًا .
وَرَوَوْا أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" تَعَلَّمُوا مِنَ الْقَدَرِ مَا لَا تَضِلُّونَ " ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=939951 " إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ ؛ فَأَمْسِكُوا " ، فَإِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَقُولَ لَهُ : اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ صَحِيحَانِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ وَاجِبُ الْقَبُولِ لَهُمَا وَالْعَمَلِ بِهِمَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَدَرَ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَأَمْرُ النُّجُومِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَأَمْرُ الصَّحَابَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
فَأَمَّا أَمْرُ النُّجُومِ :
فَأَحَدُهُمَا وَاجِبٌ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَأَمَّا مَا يَجِبُ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَهُوَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ النُّجُومِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِرِّ وَالْبَحْرِ ، وَيَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَالصَّلَاةَ وَالطُّرُقَاتِ ، فَبِهَذَا الْعِلْمِ مِنَ النُّجُومِ نَطَقَ الْكِتَابُ وَمَضَتِ السُّنَّةُ .
وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِيهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=31762عِلْمِ النُّجُومِ ، فَهُوَ أَنْ لَا يَحْكُمَ لِلنُّجُومِ بِفِعْلٍ ، وَلَا يَقْضِيَ لَهَا بِحُدُوثِ أَمْرِهِ كَمَا يَدَّعِي الْجَاهِلُونَ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ بِعِلْمِ النُّجُومِ ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=28813_28811أَمْرُ الصَّحَابَةِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فَأَمْرُهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : [ ص: 245 ]
أَحَدُهُمَا : فُرِضَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ .
وَالْآخَرُ : وَاجِبٌ عَلَيْنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَنْهُ :
فَأَمَّا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ وَصْفِهِمْ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَظِيمِ أَقْدَارِهِمْ ، وَعُلُوِّ شَرَفِهِمْ ، وَمَحَلِّ رُتَبِهِمْ ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ ، وَعِلْمُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ ، وَعِلْمُ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا حُبُّهُمْ لِأَجْلِهِ مِنْ فَضْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ ، وَنَشْرُ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، لِتَنْحَاشَ الْقُلُوبُ إِلَى طَاعَتِهِمْ ، وَتَتَأَلَّفُ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ ، فَهَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَمِنْ كَمَالِ دِينِنَا طَلَبُهُ .
وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهُ ، وَفُرِضَ عَلَيْنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ ، وَحَرَامٌ عَلَيْنَا الْفَحْصُ وَالتَّنْقِيرُ عَنْهُ ، هُوَ النَّظَرُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، وَالْخُلُقُ الَّذِي كَانَ جَرَى مِنْهُمْ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْتَبَهٌ ، وَنُرْجِئُ الشُّبُهَةَ إِلَى اللَّهِ ، وَلَا تَمِيلُ مَعَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَلَا نَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ ، وَلَا نُخْرِجُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَلَا نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حُجَّةً فِي سَبِّ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، وَلَا نَسُبُّ أَحَدًا مِنْهُمْ لِسَبِّهِ صَاحِبَهُ ، وَلَا نَقْتَدِي بِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ جَرَى مِنْهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى هُدًى وَتُقًى وَخَالِصِ إِيمَانٍ ، لَأَنَّا عَلَى يَقِينٍ - مِنْ نَصِّ التَّنْزِيلِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ - أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَخَيْرُهُ بَعْدَ نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ وَلَوْ جَاءَ بِأَعْمَالِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ، وَلَوْ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ ؛ لَمَا بَلَغَ ذَلِكَ أَصْغَرَ صَغِيرَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ أَدْنَاهُمْ ، وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ ، وَلَا شَيْءَ
[ ص: 246 ] مِنْ حَسَنَاتِهِمْ صَغِيرٌ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28789الْقَدَرُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : فُرِضَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِجَمِيعِهِ . وَالْآخَرُ : فَحَرَامٌ عَلَيْنَا التَّفَكُّرُ فِيهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ عَنْهُ ، وَالْمُنَاظَرَةُ عَلَيْهِ ، وَالْكَلَامُ لِأَهْلِهِ ، وَالْخُصُومَةُ بِهِ .
فَأَمَّا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَالْإِقْرَارُ بِجَمِيعِهِ ؛ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ، وَأَنَّ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئُنَا وَمَا أَخْطَأْنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبُنَا ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا ، عَلِمَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ ، وَوَفَّقَهُمْ لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ رَضِيَهَا أَمَرَهُمْ بِهَا ، فَوَفَّقَهُمْ لَهَا ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا ، وَشَكَرَهُمْ بِهَا ، وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ عَلَيْهَا تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا ، أَحْصَاهُمْ عَدَدًا ، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِمْ مَا كَرِهَهُ لَهُمْ ، خَذَلَهُمْ بِهَا وَعَذَّبَهُمْ لِأَجْلِهَا غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَا هُمْ مَعْذُورُونَ فِيمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ ، فَكُلُّ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ الَّذِي لَزِمَ الْخَلْقَ عِلْمُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَسَيَأْتِي مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِلْمُهُ وَالْمَعْرِفَةُ بِهِ وَمَا لَا يَسَعَهُمْ جَهْلُهُ مَشْرُوحًا مُفَصَّلًا فِي أَبْوَابِهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ ، وَمَضَتْ بِهِ سُنَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
[ ص: 247 ]
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يَحِلُّ النَّظَرُ فِيهِ وَلَا الْفِكْرُ بِهِ ، وَحَرَامٌ عَلَى الْخَلْقِ الْقَوْلُ فِيهِ كَيْفَ وَلِمَ وَمَا السَّبَبُ ، مِمَّا هُوَ سِرُّ اللَّهِ الْمَخْزُونُ وَعِلْمُهُ الْمَكْتُومُ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا ، وَحَجَبَ الْعُقُولَ عَنْ تَخَيُّلِ كُنْهِ عِلْمِهِ ، وَالنَّاظِرُ فِيهِ كَالنَّاظِرِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ ، كُلَّمَا ازْدَادَ فِيهِ نَظَرًا ؛ ازْدَادَ فِيهِ تَحَيُّرًا ، وَمِنَ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا بُعْدًا ، فَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ كَيْفَ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ يَقِيسُ فِعْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِفِعْلِ عِبَادِهِ ، فَمَا رَآهُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادِ جَوْرًا يَظُنُّ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ مِثْلِهِ جَوْرٌ ، فَيَنْفِي ذَلِكَ الْفِعْلَ عَنِ اللَّهِ ، فَيَصِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَيَرَى أَنَّهُ جَوْرٌ مِنْ فِعْلِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنِ الْجَوْرِ ، فَيَنْفِي عَنْهُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ ، فَيَجْعَلُ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً كَثِيرَةً يَحُولُونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَشِيئَتِهِ ، فَبِالْفِكْرِ فِي هَذَا وَشِبْهِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَنْهُ ، هَلَكَتِ الْقَدَرِيَّةُ حَتَّى صَارُوا زَنَادِقَةً وَمُلْحِدَةً وَمَجُوسًا ، حَيْثُ قَاسُوا فِعْلَ الرَّبِّ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ ، وَشَبَّهُوا اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَلَمْ يَعُوا عَنْهُ مَا خَاطَبَهُمْ بِهِ ، حَيْثُ يَقُولُ
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
فَمِمَّا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ وَلَا يَسْأَلَ عَنْهُ ، وَلَا يَقُولَ فِيهِ لِمَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ ، لِمَ خَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَهُوَ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ أَنَّهُ سَيَعْصِيهِ ، وَأَنْ سَيَكُونُ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ إِذَا عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا يَكُونُ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ ، وَمُضَادًا لَهُ فِي مَحَابِّهِ ، وَعَاصِيًا لَهُ فِي أَمْرِهِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ : إِنَّ هَذَا خَطَأٌ وَضَعْفُ رَأْيٍ وَفَسَادُ نِظَامِ الْحِكْمَةِ ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُصِبْ فِي فِعْلِهِ حَيْثُ خَلَقَ إِبْلِيسَ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ إِبْلِيسَ أَنَّهُ يَخْلُقُ إِبْلِيسَ عَدُوًّا
[ ص: 248 ] لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ إِبْلِيسَ أَصْلًا فَقَدْ كَفَرَ .
وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدَةِ ، فَالَّذِي يَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِبْلِيسَ وَقَدْ عَلِمَ مِنْهُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُ ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ ذَلِكَ عَدْلٌ صَوَابٌ ، وَفِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ عِلْمُهُ وَحَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهِ وَيُعَارِضُوهُ بِآرَائِهِمْ وَيَقِيسُوهُ بِعُقُولِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ جَعَلَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ سُلْطَانًا عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَدُوُّهُ وَعَدُّوهُمْ مُخَالِفٌ لَهُ فِي دِينِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ الْخُلْدَ وَالْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُ ذَلِكَ ، لَوْ شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُ مِنْ سَاعَتِهِ لَفَعَلَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعِبَادِ لَكَانَ خَطَأً ، وَكَانَ يَجِبُ فِي أَحْكَامِ الْعَدْلِ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ عَبْدٌ وَهُوَ عَدُوٌّ لَهُ وَلِأَحِبَّائِهِ وَمُخَالِفٌ لِدِينِهِ وَمُضَادٌّ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أَنْ يُهْلِكَهُ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُضِلُّ عَبِيدَهُ وَيُفْسِدُهُمْ ، فَفِي حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَنْ لَا يُسَلِّطَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا يَجْعَلَ لَهُ سُلْطَانًا وَلَا مَقْدِرَةً ، وَلَوْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ ؛ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عِنْدَ الْبَاقِينَ مِنْ عِبَادِهِ ظُلْمًا وَجَوْرًا حَيْثُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُفْسِدُهُمْ عَلَيْهِ وَيُضَادُّهُ فِيهِمْ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَقَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ وَهَلَكَتِهِ ، فَمِمَّنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حِينَ جَعَلَ لِإِبْلِيسَ الْخُلْدَ وَالْبَقَاءَ وَسَلَّطَهُ عَلَى بَنِي
آدَمَ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُهْلِكَ إِبْلِيسَ مِنْ سَاعَتِهِ حِينَ أَغْوَى عِبَادَهُ فَقَدْ كَفَرَ ، وَهَذَا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَرُدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُقَالُ فِيهِ لِمَ وَلَا كَيْفَ
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَمِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ أَنْ يَأْتُوا بَنِي
آدَمَ فِي جَمِيعِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ ، يَأْتُونَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ وَجَعَلَهُمْ يَجْرُونَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مَجْرَى
[ ص: 249 ] الدَّمِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ لِلرُّسُلِ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنَ السُّلْطَانِ مِثْلَ مَا جَعَلَ لَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي أَحْكَامِ الْعِبَادِ لَكَانَ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَامَةٌ كَعَلَامَةِ السُّلْطَانِ ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ أَجْرَاسٌ يَعْرِفُونَهُمْ بِهَا ، وَيَسْمَعُونَ حِسَّهُمْ فَيَأْخُذُونَ حِذْرَهُمْ مِنْهُمْ ، حَتَّى إِذَا جَاؤُوا مِنْ بَعِيدٍ عَلِمَ الْعِبَادُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَضِلُّونَ النَّاسَ ، فَيَأْخُذُونَ حِذْرَهُمْ ، أَوْ يَجْعَلَ لِلرُّسُلِ أَنْ يُزَيِّنُوا وَيُوَصِّلُوا إِلَى صُدُورِ النَّاسِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ ذُرِّيَّتَهُ وَيُزَيِّنُوا لَهُمُ الْمَعْصِيَةَ ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ عَبِيدِهِ الْبَاقِينَ ظُلْمًا وَجَوْرًا لِأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ ، وَالرُّسُلُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُزَيِّنُوا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ طَاعَةَ اللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مَعْصِيَتَهُ بِالْوَسْوَسَةِ ، فَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ سُلْطَانًا أَنْ يَأْتُوا عَلَى جَمِيعِ بَنِي
آدَمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمُ الْمَعَاصِيَ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ جَعَلَ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ هَذَا السُّلْطَانَ عَلَى بَنِي
آدَمَ فَقَدْ كَفَرَ ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَرُدُّ عِلْمُهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ إِلَيْهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ سَلَّطَ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَلَى الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا ، وَسَلَّطَ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ ، وَقَتَلُوا الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ لِيُكْرِمَ أَوْلِيَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ بِهَوَانِ أَعْدَائِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهْلِكَ الْكُفَّارَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ بَعْضِ مُلُوكِ الْعِبَادِ ؛ كَانَ جَوْرًا عِنْدَ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَيْثُ سَلَّطَ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَنْصَارِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هَلَكَتِهِمْ مِنْ
[ ص: 250 ] وَقْتِهِمْ ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا جَوْرٌ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ حَيْثُ سَلَّطَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَلِّطْهُمْ وَإِنَّمَا الْكُفَّارُ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ بِقُوَّتِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَنْصُرَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ حَتَّى غَلَبُوهُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ نَصْرَهُ وَتَمْكِينَهُ ؛ فَمَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، لَا يُشْبِهُ عَدْلُهُ عَدْلَ الْمَخْلُوقِينَ ، كَمَا أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يُشْبِهُهُ .
وَخَصْلَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ مَكَّنَ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ فِي الْبِلَادِ ، وَأَعَانَهُمْ بِقُوَّةِ الْأَبْدَانِ وَرَشَاقَةِ الْأَجْسَامِ ، وَأَيَّدَهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ أَنْ يُعِدُّوا لَهُمُ السِّلَاحَ وَالْقُوَّةَ ، وَأَنْ يُحَارِبُوهُمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ ، ثُمَّ قَالَ هُوَ لِنَفْسِهِ : إِنِّي مَعَكُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ مِنْ وَقْتِهِ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْهَلَاكِ شَاءَ ، مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ ، وَبِغَيْرِ أَنْصَارٍ وَلَا سِلَاحٍ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَحْكَامِهِمْ ؛ لَكَانَ جَوْرًا وَفَسَادًا أَنْ يُقَوِّيَ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيَمُدَّهُمْ بِالْعُدَّةِ ، وَيُؤَيِّدَهُمْ بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْقُوَّةِ ، ثُمَّ يَنْدُبُ أَوْلِيَاءَهُ لِمُحَارَبَتِهِمْ ، فَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْعُدَّةَ وَالْقُوَّةَ وَالسِّلَاحَ الَّذِي فِي أَعْدَاءِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَطِيَّةِ اللَّهِ لَهُمْ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَطِيَّتِهِ لَهُمْ وَهُوَ جَوْرٌ مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ وَقَوَّاهُمْ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَسْلِبَهُمْ إِيَّاهُ وَيُهْلِكَهُمْ مِنْ سَاعَتِهِ فَقَدْ كَفَرَ ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَعْدَاءَهُ وَقَوَّاهُمْ وَسَلَّطَهُمْ ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ لَفَعَلَ ، وَاللَّهُ أَعْدَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُضْمِرَ فِي نَفْسِهِ
[ ص: 251 ] فَيَقُولُ : لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالْهَوَامَّ وَالسِّبَاعَ الَّتِي تَضُرُّ بَنِي
آدَمَ وَلَا تَنْفَعُهُمْ وَسَلَّطَهَا عَلَى بَنِي
آدَمَ ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَخْلُقَهَا مَا خَلَقَهَا ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ مُلُوكِ الْعِبَادِ لَقَالَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ : هَذَا غِشٌّ لَنَا وَمَضَرَّةٌ عَلَيْنَا بِغَيْرِ حَقٍّ حَيْثُ جَعَلَ مَعَنَا مَا يَضُرُّ بِنَا وَلَا نَنْتَفِعُ نَحْنُ وَلَا هُوَ بِهِ ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ خَلَقَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالسِّبَاعَ وَكُلَّمَا يُؤْذِي بَنِي
آدَمَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَالِقًا غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ وَالْمَجُوسِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ ، فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْإِيمَانُ بِهِ ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا تَضُرُّ بِعِبَادِهِ وَتُؤْذِيهِمْ وَهُوَ عَدْلٌ مِنْ فِعْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا خَلَقَ
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَخَصْلَةٌ أُخْرَى لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ وَيُضْمِرَ فِي نَفْسِهِ ، لِمَ تَرَكَ اللَّهُ الْعِبَادَ حَتَّى يَجْحَدُوهُ وَيُشْرِكُوا بِهِ وَيَعْصُوهُ ، ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هِدَايَتِهِمْ ، وَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يَمْنَعَ قُلُوبَهُمْ أَنْ تَدْخُلَهَا شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، أَوْ مَحَبَّةُ شَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَتِهِ ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُبَغِّضَ إِلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ مَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتِهِ ، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَتِهِ مَعَ هِمَّتِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى أَفْضَلِ عَمَلِ عَبْدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ؟ فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْقُلُوبَ أَنْ يَدْخُلَهَا حُبُّ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَلَمْ يَهْدِ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هِدَايَةَ الْخَلْقِ وَطَاعَتَهُمْ لَهُ وَأَرَادَ أَنْ لَا يَعْصِيَهُ أَحَدٌ وَلَا يَكْفُرَ أَحَدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَى هِدَايَةِ
[ ص: 252 ] الْخَلْقِ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهُوَ جَوْرٌ مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ كَفَرَ ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ ، وَتَرْكُ الْخَوْضِ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْكُفَّارَ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ ، وَخَلَقَ الْعُصَاةَ وَأَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَجَعَلَ حُبَّ الْمَعَاصِي فِي قُلُوبِهِمْ ، فَعَصَوْهُ بِنِعْمَتِهِ ، وَخَالَفُوهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ قُوَّتِهِ ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَهُوَ يُعَذِّبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَلُومُونَ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَدْلٌ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ بِهِمْ ، وَغَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
فَهَذَا مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يَحِلُّ الْبَحْثُ عَنْهُ وَلَا الْكَلَامُ فِيهِ ، وَلَا التَّفَكُّرُ فِيهِ ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ذَكَرْتُهُ وَمَا أَنَا ذَاكِرُهُ ؛ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهِ ، لَا يَرُدُّ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا قَدَرِيٌّ خَبِيثٌ مَشُومٌ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ وَأَلْحَدَ فِي دِينِ اللَّهِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ ؛ وَسَأَذْكُرُ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حُمَيْدٍ .
[ ص: 253 ]