ومما غالط به الجهمي من لا يعلم أن ، قال : كل شيء دون الله مخلوق ، والقرآن من دون الله ، فيقال له في جواب كلامه هذا : إنا لسنا نشك أن ألم تسمع إلى قوله : كل ما دون الله مخلوق ولكنا لا نقول إن القرآن من دون الله ، ولكنا نقول من كلام الله ، ومن علم الله ، ومن أسماء الله ، ومن صفات الله ، وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله .
وقال : سلام قولا من رب رحيم ، ولم يقل : من دون رب .
وقال : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا ، ولا يكون الأمر إلا من آمر ، كما لا يكون القول إلا من قائل ، ولا يكون الكلام إلا من المتكلم ، ولو كان القرآن من دون الله ، لما جاز لأحد أن يقول : قال الله ، كيف يقوله وهو من دون الله ، بل كيف يكون من دونه وهو قاله ؟ !
ومما غالط به الجهمي من لا يعلم ، أن ، قال : إن الله رب القرآن وكل [ ص: 206 ] مربوب ، فهو مخلوق .
فاحتج الجهمي بكلمة لم ينزل بها القرآن ، ولا جاء بها أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من الصحابة ، ولا من بعدهم من التابعين ، ولا من فقهاء المسلمين ، فيتخذ ذلك حجة ، وإنما هي كلمة خفت على ألسن بعض العوام ، وجازت بعض اللغات ، فتجافى لهم عنها العلماء ، وإنما المعنى في جواز ذلك كما استجازوا أن يقولوا : من رب هذه الدار ، وهذا رب هذه الدابة وليس هو خلقها ، وكما يقولون : من رب هذا الكلام ، ومن رب هذه الرسالة ، ومن رب هذا الكتاب ، أي : من تكلم بهذا الكلام ؟ ومن ألف هذا الكتاب ؟ ومن أرسل هذه الرسالة ؟ لا أنه خالق الكلام ، ولا خالق الكتاب والرسالة .
فلذلك استجاز بعض العوام هذه الكلمة وخفت على ألسنتهم ، وإن كان لا أصل لها عمن قوله حجة ، وإنما قالوا : يا رب القرآن كقولهم : يا منزل القرآن ويا من تكلم بالقرآن ويا قائل القرآن!
فلما كان القرآن من الله منسوبا إليه ، جاز أن يقولوا هذه الكلمة .
ومما يبين لك كفر الجهمية وكذبها في دعواها أن كل مربوب [ ص: 207 ] مخلوق ، قال الله عز وجل : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .
أفترى ظن الجهمي أن أحبارهم ورهبانهم خلقوهم من دون الله ؟ !
وقال يوسف الصديق : اذكرني عند ربك - يعني : عند سيدك .
قال الله عز وجل : فأنساه الشيطان ذكر ربه .
ومما غالط به الجهمي من لا علم عنده أن ، قال : القرآن في اللوح المحفوظ ، واللوح محدود ، وكل محدود مخلوق على أن الجهمي يجحد اللوح المحفوظ وينكره ويرد كتاب الله ووحيه فيه ، ولكنه يقر به في موضع يرجو به الحجة لكفره ، فقال الجهمي : إن قول الله عز وجل : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ، فقال : إن اللوح بما فيه مخلوق ، ولا جائز أن يكون مخلوق فيه غير مخلوق ، فقبحوا في التأويل وكفروا بالتنزيل من وجوه كثيرة ، وذلك أن وهكذا . القرآن من علم الله ، وعلم الله وكلامه وجميع صفاته كل ذلك سابق اللوح المحفوظ قبله وقبل القلم
قال رحمه الله : " إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب فكتب في اللوح المحفوظ ، فكان خلق القلم واللوح بقول الله عز [ ص: 208 ] وجل لهما كونا ، فقوله : قبل خلقه ، وما في اللوح كلامه ، وإنما ما في اللوح من القرآن الخط والكتاب ، فأما كلام الله عز وجل ، فليس بمخلوق ، وكذلك قوله عز وجل : ابن عباس في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ، وإنما كرمت ورفعت وطهرت لأنها لكلام الله استودعت " .
وأما قولهم : إنه لا يكون مخلوق فيه غير مخلوق ، فذلك أيضا يهت من كلامهم ويتناقض في حججهم ، أما سمعت قول الله عز وجل : وهو الله في السماوات ، والسماوات مخلوقة ، والله عز وجل غير مخلوق ، والله تعالى فيها ، فقد بين أن مخلوقا فيه غير مخلوق ، ومن أصل الجهمية ومذاهبها أن الله تعالى يحل في الأشياء كلها وفي الأمكنة ، والأمكنة مخلوقة .
فلما علم أن الله تعالى هو الخالق لا مخلوق ، وكذلك كل ما كان منه لا يكون مخلوقا قال : وسع كرسيه السماوات والأرض فسرها [ ص: 209 ] علمه ، فأخبر أن علمه وسع السماوات والأرض ، وهل يكون العلم مخلوقا ؟ وإنما يكون مخلوقا ما لم يكن ثم كان ، وربنا لم يزل عالما متكلما . ابن عباس :
ومما غالط به الجهمي من لا يعلم : الحديث الذي روي عن " ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا شيء أعظم من آية الكرسي " ، فتأولوا هذا الحديث على من لا يعلم ، وأخطؤوا وغالطوا بالمتشابه من ألفاظ الحديث كما غالطوا بالمتشابه من القرآن ، فإذا تفهمه العاقل وجده واضحا بينا ، فلو كانت آية الكرسي مخلوقة كخلق السماء والأرض والجنة والنار وسائر الأشياء إذا لكانت السماء أعظم منها ، ولكانت الجنة أعظم منها ، ولكانت النار أعظم منها ؛ لقلة حروفها وخفتها على اللسان ، وإن السماء والأرض والجنة والنار أطول وأعرض وأوسع وأثقل وأعظم في المنظر ، ولا بلغ ذلك كله مبلغ حرف واحد من [ ص: 210 ] كلام الله ، وإنما أراد ابن مسعود : رحمه الله أنه ليس في خلق الله كله ما يبلغ عظم كلام الله وإن خف ، ولا يكون شيء أعظم من كلام الله ، ولن يعظم ذلك الشيء في أعين العباد . عبد الله بن مسعود
ألا ترى أنك تقول : ما خلق الله بالبصرة رجلا أفضل من سفيان الثوري ؟ وسفيان ليس من أهل البصرة ، وإنما أردت : ليس بالبصرة مع عظمها وكثرة أهلها مثله ولا من يدانيه في فضله .
وكقولك : فلم ترد أنه أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصدق من " ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر " ، ، أبي بكر وعمر ومن هو أفضل منه ، ولكنه لم يتقدمه أحد في الصدق ، وإن فضلوه في غيره .
ألم تسمع إلى قول الله عز وجل : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ، فسمى الله نفسه في الأشياء ، وليس هو من الأشياء المخلوقة ، تعالى الله علوا كبيرا . [ ص: 211 ] .
فكذلك قول " ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا شيء أعظم من آية الكرسي " ، لأن آية الكرسي من كلام الله ، وهي آية من كتابه ، فليس شيء من عظيم ما خلق يعدل بآية ولا بحرف من كلامه . عبد الله :
ألا ترى أن الله قد عظم خلق السماوات والأرض ، وجعل ذلك أكبر من غيره من المخلوقات ، فقال : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ؟
ثم آية الكرسي مع خفتها وقلة حروفها أعظم من ذلك كله ، لأنها من كلام الله ، وبكلام الله وأمره قامت السماوات والأرض ، وخلقت المخلوقات كلها .
واعلم أن الجهمي الخبيث يقول في الظاهر : أنا أقول إن القرآن كلام الله ، فإذا نصصته ، قال : إنما أعني كلام الله مثل ما أقول : بيت الله وأرض الله وعبد الله ومسجد الله ، فمثل شيئا لا يشبه ما مثله به ، والتمثيل لا يكون إلا مثلا بمثل ، حذو النعل بالنعل ، فإن زاد التمثيل عما مثل به أو نقص بطل ، ألا ترى أن البيت بني من الأرض ، وفي الأرض ، وبناه مخلوق ، وهدم مرة بعد أخرى ، وهو مما يدخل فيه ويخرج عنه ، والمسجد مما يخرب ويبيد ويعفو أثره ويزول اسمه ، وكذلك الأرض يمشى عليها وتحفر ويدفن فيها ، وكذلك عبد الله نطفة ، وجنين ، ومولود ، ورضيع ، وفطيم ، وصبي ، وناشئ ، وشاب ، وكهل ، وشيخ ، وآكل ، وشارب ، وماش ، ومتكلم ، وحي ، وميت ، فهل في ذلك شيء يشبه [ ص: 212 ] القرآن .
ومما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم : ألستم تقولون إن الله خلق القرآن ؟ فإذا قالوا : نعم . قيل لهم : فأنتم تقولون : إن كل شيء في القرآن من أسماء الله وصفاته ، فهو مخلوق ؟ فإنهم يقولون : نعم . فيقال لهم : وتزعمون أن : بسم الله الرحمن الرحيم مخلوق ، وقوله : السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، وأن : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .
فيقال له : فما تقول فيمن دعا فقال في دعائه : يا خالق الله الرحمن الرحيم! اغفر لنا ، كما يقول : يا خالق السماوات والأرض! يا خالق العزيز الجبار المتكبر! يا خالق الله الصمد! يا خالق من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد! كما يقال : يا خالق الجنة والنار! ويا خالق العرش العظيم! ولو كان القرآن مخلوقا وأسماء الله مخلوقة وصفاته كما زعم الجهمي الملعون وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لكان من تعظيم الله أن يدعى فيقال : يا خالق القرآن! ويا خالق أسمائه وصفاته! ويا خالق الله الرحمن الرحيم! ويا خالق العزيز الحكيم! فهل بلغكم أن مسلما أو معاهدا حلف بهذه اليمين ؟ أوليس إنما جعل الله عز وجل القسم بأسمائه يمينا يبرأ بها المطلوب من الطالب ، وجعل الحلف بين الخلق في حقوقهم والأيمان المؤكدة التي يتحوب المؤمنون من الحنث بها هي الحلف بأسماء الله وصفاته ، وبذلك حكم حكام المسلمين فيمن ادعى عليه حق أو ادعى لنفسه حقا ؟ أو ليس ذلك هو قسامة من ادعى عليه قتل النفس أن [ ص: 213 ] يحلف في ذلك أن يقول : والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب إلى آخر اليمين ؟
أفرأيت لو حلف ، فقال : وحق السماوات والأرض والبحار والأشجار والجنة والنار ، هل كانت هذه اليمين تغني عنه شيئا أو تبرئه من دعوى حقيرة صغيرة ادعيت عليه ، وليس من ادعيت عليه الأموال الخطيرة والحقوق العظيمة ولا بينة عليه فحلف باسم من أسماء الله وبصفة من صفاته التي هي في القرآن تردد وترجع وتكثر لبرئ من كل دعوى عليه وطلبة ، وكل ذلك لأن أسماء الله وصفاته وكلامه منه وليس شيء من الله مخلوق ، تعالى الله علوا كبيرا .
أوليس من قال : يا خالق الرحمن! يا خالق الجبار المتكبر! فقد أبان زندقته وأراد إبطال الربوبية ، وأنه لم يكن من هذا كله شيء ، حتى خلق ، تعالى الله علوا كبيرا .
ويلزم الجهمي في قوله : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم أن يكون قد شبه ربه بالأصنام المتخذة من النحاس والرصاص والحجارة ، فتدبروا رحمكم الله نفي الجهمي للكلام عن الله ، إنما أراد أن يجعل ربه كهذه ، فإن الله عز وجل عير قوما عبدوا من دونه آلهة لا تتكلم ، فقال : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين فزعم الجهمي أن ربه كذا إذا دعي لا يجيب [ ص: 214 ] .
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام حين عير قومه بعبادة ما لا ينطق حين قال : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، أي كيف يكون من لا ينطق إلها ؟ فلما أسكتهم بذلك وبخهم فقال : أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ، فأي خير عند من لا ينطق ولا ينفع ولا يضر ، فإنما يدور الجهمي في كلامه واحتجاجه على إبطال صفات الله ليبطل موضع الضر والنفع والمنع والعطاء ، ويأبى الله إلا أن يكذبه ويدحض حجته ، فتفكروا رحمكم الله فيما اعتقدته الجهمية وقالته وجادلت فيه ودعت الناس إليه ، فإن من رزقه الله فهما وعقلا ووهب له بصرا نافذا وذهنا ثاقبا ، علم بحسن قريحته ودقة فطنته أن الجهمية تريد إبطال الربوبية ودفع الإلهية ، واستغنى بما يدله عليه عقله وتنبهه عليه فطنته عن تقليد الأئمة القدماء والعلماء والعقلاء الذين قالوا : إن الجهمية زنادقة ، وأنهم يدورون على أن ليس في السماء شيء ، فإن القائلين لذلك بحمد الله أهل صدق وأمانة وورع وديانة ، فإن من أنعم النظر وجد الأمر كما قالوا ، الجهمية قالوا : إن الله ما تكلم قط ولا يتكلم أبدا ، فجحدوا بهذا القول علمه وأسماءه وقدرته وجميع صفاته ، لأن من أبطل صفة واحدة ، فقد أبطل الصفات كلها ، كما أنه من كفر بحرف من القرآن ، فقد كفر به كله . فإن
وقالوا : إنه لا يرى في القيامة ، فما بالهم لا يألون أن يأتون بما فيه [ ص: 215 ] إبطاله وإبطال البعث والنشور والجنة والنار ؟
وقالوا : إن الله ما كلم موسى تكليما ، ولا اتخذ إبراهيم خليلا ، ولا هو على عرشه .
وقالوا : إن الجنة والنار لم تخلقا بعد ، ثم قالوا : إنهما إذا خلقتا فإنهما تبيدان وتفنيان . وقالوا إن أهل القبور لا يعذبون إبطالا للرجوع بعد الموت . [ ص: 216 ]
وقالوا : إنه لا ميزان ، ولا صراط ، ولا حوض ، ولا شفاعة ولا كتب ، وجحدوا باللوح المحفوظ ، وبالرق المنشور ، وبالبيت المعمور ، فليس حرف واحد من كلامهم يسمعه من يفهمه إلا وقد علم أنه يرجع إلى الإبطال والجحود بجميع ما نزلت به الكتب وجاءت به الرسل ، حتى إنهم ليقولون : إن الله عز وجل لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغضب ، ولا يرضى ولا يحب ، ولا يكره ، ولا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون ، وكل ما ادعوه من ذلك وانتحلوه فقد أكذبهم الله فيه ونطق القرآن بكفر من جحده .
وقد كان إبراهيم عليه السلام عتب على أبيه فيما احتج به عليه ، فقال : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فيقولون : إن إبراهيم عاتب أباه ، ونقم عليه عبادة من لا يسمع ولا يبصر ، ثم عاد أباه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر ، سبحان الله! ما أبين كفر قائل هذه المقالة عند من عقل وسيأتي تبيان كفرهم وإيضاح الحجة بالحق عليهم من كتاب ربنا وسنة [ ص: 217 ] نبينا صلى الله عليه وسلم في كل شيء قالوه في مواضعه وأبوابه ، وبالله التوفيق .
فمما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم : أرأيتم إذا مات الخلق كلهم فلم يبق أحد غير الله من القائل : لمن الملك اليوم وقد مات كل مخلوق ، ومات ملك الموت ، ثم يرد ربنا تعالى على نفسه فيقول : لله الواحد القهار ، فإن قالوا : إن هذا القول مخلوق ، فقد زعموا أنه يبقى مخلوق مع الله ، وإن قالوا : إن الله لا يقول ، ولكنه أخبر بما يدل على عظمته ، فقد كذبوا كتاب الله وجحدوا به وردوه ، أرأيت إن قائلا ، قال : إن الله عز وجل لا يقول يوم القيامة : لمن الملك اليوم ، أليس يكون كاذبا ولكتاب الله رادا ، فأي كفر أبين من هذا ؟ !
ومما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم : أخبرونا كيف حال من لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ؟ فإذا ، قال : هذه أحوال الكفار ، وبذلك وصفهم الله ، فيقال لهم : فأنتم تزعمون أن هذه أيضا أحوال الأنبياء والصديقين والشهداء والمؤمنين من الأولياء والصالحين والبدلاء ، فما فضل هؤلاء على الكافرين ولو كان الأنبياء والرسل مع أهل الكفر في هذه المنزلة من احتجاب الله دونهم وترك كلامهم والنظر إليهم لما كان ذلك داخلا في وعيد الكفار والتهديد لهم به ، ولا كان ذلك بضائر لهم ، إذ هم فيه والرسل والأنبياء سواء .
ومما يحتج به على الجهمي أن يقال له : من القائل : يا موسى إني أنا ربك فإن قالوا : خلق الله خلقا قال ذلك لموسى ، قيل لهم : وقبل ذلك [ ص: 218 ] موسى واستجاب لمخلوق من دون الله يقول أنا ربك ؟ !
ويقال له : من القائل : يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ، : يا موسى إني أنا الله رب العالمين ؟
ومن القائل : يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ؟ فإن قال الجهمي : إن هذا ليس من قول الله عز وجل ، فأتني بكفر أبين من هذا أن يكون مخلوق يقول : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ، فإن زعموا أن موسى أجاب ذلك المخلوق وأطاعه ، فقد زعموا أن موسى كان يعبد مخلوقا من دون الله ، ولو كان كما يقول الجهمي ، فكان ذلك المخلوق خلق عندهم ليفهم موسى أن خالقي هو الله الذي لا إله إلا هو ، فاعبده وأقم الصلاة لذكره .
ولو قال الجهمي ذلك أيضا لتبين كفره ، لأن ذلك المخلوق لم يكن ليقول ذلك حتى يؤمر به ، فإن قال الجهمي إن ذلك المخلوق قاله من غير أمر يؤمر به ، فقد زعم الجهمي أن جميع هذه القصص كذب وافتراء على الله .
وإن قال : قد قال ذلك المخلوق بإراده الله من غير قول ، فقد زعم أن ذلك المخلوق يعلم الغيب من دون الله ، وأن المخلوق يعلم مراد الله وإن لم يقل هو ، وهم يزعمون أن الله لا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون ، وأن الخلق يسعون ويتقلبون في أمور مستأنفة لم يشأها الله ولم يعلمها إلا من بعد أن عملوها ، ويزعمون هاهنا أن المخلوق يعلم ما يريد الله من غير أن يقوله ، والله [ ص: 219 ] يقول فيما أخبر عن عيسى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، والجهمي يزعم أن الخلق يعلمون ما في نفس الله من غير أن يقوله ، وهو لا يعلم ما في نفوسهم حتى يقولوه أو يعلموه ، تعالى الله عما يقوله الجهمي علوا كبيرا ، فالجهمي يزعم أن المخلوق يعلم الغيب والله لا يعلم ، والله عز وجل يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله .
ومما يحتج به على الجهمي قول الله عز وجل : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ، وقوله : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا ، هل يجوز أن يكون هذا مخلوقا ؟ وهل يجوز لمخلوق من دون الله أن يقول : ذرني ومن خلقت وحيدا ، فالجهمي يزعم أن مع الله مخلوقا خلق الخلق دونه .
ومما يحتج به عليه قول الله عز وجل : لله الأمر من قبل ومن بعد فأخبره أن أمره قبل الخلق وبعد فناء الخلق ، فالأمر هو كلامه الذي يأمر به ويفعل به ما يريد به ويخلق .
وقال الله عز وجل : ألا له الخلق والأمر ، فدخل في قوله : الخلق [ ص: 220 ] كل مخلوق ، ثم قال : والأمر ، ففصل بينهما .
وقال : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا .
وقال : ومن يزغ منهم عن أمرنا .
وقال : قل أمر ربي بالقسط .
وقال : وما نتنزل إلا بأمر ربك .
فهذه كلها لو سمي الأمر فيها باسم الخلق ، لم يجز ، ألا ترى أنه لا يمكن أن يقول : ألا له الخلق والخلق ، لأن قوله : الخلق يدخل فيه الخلق كله بقوله الخلق ، والخلق باطل لا يجوز أن يقال : فيها يفرق كل أمر حكيم خلقا من عندنا ، ولا يقال : ومن يزغ منهم عن خلقنا ، ولا يجوز أن يقال : قل خلق ربي بالقسط ، ولا يجوز أن يقال : إن الحكم إلا لله خلق أن لا تعبدوا إلا إياه ، ولا يجوز أن يقال : حتى إذا جاء خلقنا .
ولو كان معنى الأمر معنى الخلق ، جاز في الكلام أن يتكلم بالمعنى ، ففي هذا بيان كفر الجهمية فيما ادعوه أن القرآن مخلوق ، وسنوضح ما قالوه بابا بابا ، حتى لا يخفى على مسترشد أراد طريق الحق وأحب أن يسلكها ، ويزيد العالم بذلك بصيرة ، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل [ ص: 221 ] [ ص: 222 ] [ ص: 223 ] [ ص: 224 ] [ ص: 225 ] .
أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين علي بن عبيد الله بن نصر بن الزاغوني ، قال : أخبرنا الشيخ أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن علي بن البسري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة رضي الله عنه إجازة ، قال :