788 - فأما القول في الحقوق المتعلقة بالأموال ، فالمسلك الوجيز فيه أن الحقوق تنقسم إلى ما يفرض لمستحقين مختصين ، وإلى ما يتعلق بالجهات العامة :
فأما ما يقدر لأشخاص معينين ، كالنفقات وغيرها ، فما علم في الزمان وجوبه حكم به ، وما لم يعلم بنو الزمان لزومه ، فالأمر يجري فيه على براءة الذمة .
789 - وأنا الآن أضرب من قاعدة الشرع مثلين يقضي الفطن العجب منهما ، وغرضي بإيرادهما تنبيه القرائح لدرك المسلك الذي مهدته في الزمان الخالي ، ولست أقصد الاستدلال بهما ، فإن الزمان إذا فرض خاليا عن التفاريع والتفاصيل ، لم يستند أهل الزمان إلا إلى مقطوع به ، فالذي أذكره من أساليب الكلام في تفاصيل الظنون .
فالمثلان : أحدهما - في الإباحة ، والثاني - في براءة الذمة .
790 - فأما ما أضربه في المباحات مثلا ، فأقول : [ ص: 500 ] الصيود مباحة ، وليس لها نهاية ، فلو اختلط بها صيود مملوكة ، والتبس الأمر ، فما من صيد يقتنصه المرء إلا ويجوز أن يكون ما احتوت عليه يده الصيد المملوك .
ثم اتفق العلماء على أن ، لأن ما حل من الصيود غير متناه ، والمختلط به محصور متناه . الاصطياد لا يحرم
791 - وقد قدمنا أن ما لا حرج فيه ، ولا حجر لا يتناهى ، وإنما المعدود المحدود ما يحرم ، فإذا التبس على بني الزمان أعيان المحرمات وهي مضبوطة [ لم يحرم ] عليهم مالا يتناهى .
792 - [ وأما ] الذي أضربه مثلا في ، فأقول : لو علم رجل أن لإنسان عليه دينا ، والتبس عين ذلك الرجل عليه التباسا لا يتوقع ارتفاعه ، فمن ادعى من آحاد الناس مع اطراد الالتباس أنه مستحق الدين ، لم يجب على المدعى ( 264 ) عليه بمجرد دعواه شيء ، ولو حلف لا يلزمه تسليم شيء إليه ، وإن كانت يمينه بارة ، إذ لو منعناه من اليمين ، وحملناه على النكول وغرمناه المدعى ، فقد يدعي عليه آخر ذلك الدين . براءة الذمة
قائلا : إن الأول كان مبطلا ، وأنا [ ص: 501 ] ذو الحق ، ثم يطرد ذلك إلى غير نهاية ، فالاستمساك بالبراءة أولى من جهة أن الذين لا يستحقون عليه شيئا لا ينحصرون ، فتغليب ما [ انتفت ] النهاية عنه أحرى .
793 - والذي يعضد ذلك أنه إذا كان للرجل أخت محرمة من الرضاع مثلا ، وقد اختلطت بنسوة لا ينحصرون عندها ، فللرجل أن ينكح منهن من شاء .
وهذا أبدع مما تقدم من جهة أن التحريم مغلب في الأبضاع .
794 - وإذا تقابل في امرأة سببا تحريم وتحليل ، من غير ترجيح أحد الوجهين على الثاني ، فالحرمة مغلبة في البضع على وضع الشرع ، ومع هذا [ أبحنا للذي ] خفيت عليه أخته ، واختلطت بنسوة غير منحصرات عندنا أن ينكح منهن من يشاء ، على شرط الشرع .
فوجب بما ذكرناه أن موجب تفاصيل الشريعة النظر إلى ما لا يتناهى ، ولا يتغير الحكم فيه بأن يختلط به ما يتناهى .
[ ص: 502 ] 795 - ومما يستتم به هذا الكلام إذ لابسناه ، أنه إذا انتقلت حمامات بلدة وهي مملوكة إلى بلدة أخرى ، واختلطت بحمام [ مباح ] فالذي صار إليه المحققون في علوم الشريعة أنه لا يحرم الاصطياد بسبب هذا الاختلاط .
796 - وإن فرض اختلاط ما لا يتناهى عندنا بما لا يتناهى ، فإن كان ما ذكرته محفوظا عند أهل الزمان بنوا عليه ما سبق من حمل الأمر على براءة الذمة ، عند تخيل الوجوب من غير استيقان ، وكذلك ينبني الأمر على الحل ورفع الحرج ، فيما لا يستيقن فيه تحريم .
797 - وإن عري الزمان عن الإحاطة ( 265 ) بما ذكرته فالذي تقتضيه القاعدة الكلية نفي الوجوب ، فيما لم يقم دليل [ على وجوبه ، وارتفاع الحرج فيما لا يثبت فيه حظر ] فإذا هذا مستبين على هذه القضية من القاعدة الكلية ، وإن [ نسي ] ما قدمته من الأمثلة [ في ] الاختلاط .
798 - فهذا آخر ما حاولناه الآن في تعلق الحقوق لمعينين بأموال الناس نفيا وإثباتا .
[ ص: 503 ] 799 - فأما القول فيما يتعلق بالجهات العامة من الحقوق ، وقد أحلنا على هذا طرفا من الكلام في الزكاة ، فنقول فيه :
إذا كانت هذه المرتبة مفروضة في بقاء أصول الشريعة في الأذكار فالجهات العامة يبقى العلم بأصلها شائعا مستفيضا [ ذائعا ] ، وإن فرض دروس الذكر فيه ، فتكون سائر الأصول دارسة عن الأذكار ، والأفكار أيضا ، ويقع الكلام في المرتبة الرابعة حينئذ فيما لا يتصور دروسه . والكلام في بقاء الأصول .
800 - فالواجب إنقاذ المشرفين على الردى من المسلمين . فإذا فرض بين ظهراني المسلمين مضرور في مخمصة ، أو جهة أخرى من جهات الضرورة ، واستمكن المثرون الموسرون من إنقاذه بأموالهم وجب ذلك على الجملة .
801 - ثم يدرك بمقتضى العقل وراء ذلك أمران : أحدهما - أن من سبق إلى القيام بذلك ، فقد أسقط الفرض عن الباقين . والثاني - أن ، حرجوا من عند آخرهم ; إذ ليس بعضهم بالانتساب إلى التضييع أولى من بعض ، وقد عمهم العلم ، والتمكن من الكفاية . الموسرين بأجمعهم لو تواكلوا وتخاذلوا [ وأحال ] [ ص: 504 ] البعض على البعض ، حتى هلك المضطر
وهذا الذي فصلناه معنى فرض الكفاية في قاعدة الشريعة .
802 - فإذا هذا النوع مما يتعلق بالأموال على حكم الكفاية ، [ فكل ما ] علم في الزمان المفروض - كما ذكرناه - نحي به نحو ما ذكرناه ، وكل ما أشكل وجوبه ( 266 ) فالأصل براءة الذمة فيه كما سبق في حقوق الأشخاص المعينين .
803 - فهذا منتهى المقصود فيما يتعلق بالأملاك من المعاملات والحقوق الخاصة والعامة .
وأذكر الآن فصلا في المواريث حتى يتم الكلام في فنه إن شاء الله عز وجل .