وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء عن يحيى بن معاذ أنه قال قلت لأبي يزيد هل سألت الله تعالى المعرفة يقال عزت عليه أن يعرفها سواه. فقلت: هذا إقرار بالجهل فإن كان يشير إلى معرفة الله تعالى في الجملة وأنه موجود وموصوف بصفات وهذا لا يسمع أحد من المسلمين جهله وإن تخايل له أن معرفته هي اطلاع على حقيقة ذاته وكنهها فهذا جهل به.
: لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة قلت: وهذا فوق الجنون بدرجات.
وحكى أبو حامد الغزالي ، عن ابن الكريني أنه قال نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فنشب في قلبي فدخلت الحمام وعينت على ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي. قال أبو حامد فهكذا كانوا يرضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا صلاح قلوبهم ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمام. قلت: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل: والعجب منه [ ص: 344 ] أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال وأي حالة أقبح وأشد من حال من يخالف الشرع ويرى المصلحة في النهي عنه وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي وقد عدم في الشريعة ما يصلح به قلبه حتى يستعمل ما لا يحل فيها وهذا من جنس ما تفعله الأمراء الجهلة من قطع من لا يجب قطعه وقتل من لا يجوز قتله ويسمونه سياسة ومضمون تلك الشريعة ما تفي بالسياسة. وكيف يحل للمسلم أن يعرف نفسه لأن يقال عنه سارق وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض ولو أن رجلا وقف مع امرأته في طريق يكلمها ويلمسها ليقول عنه من لا يعلم هذا فاسق لكان عاصيا بذلك، ثم كيف يجوز ثم في نص مذهب التصرف في مال الغير بغير إذنه. أحمد ، أن من سرق من الحمام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده ثم من أرباب الأحوال حتى يعملوا بواقعاتهم كلا والله إن لنا شريعة لو رام والشافعي أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه. أبو بكر الصديق أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب. فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوف
أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، نا أبو سعد بن أبي صادق ، نا قال: سمعت ابن باكويه محمد بن أحمد النجاري يقول: كان علي بن بابويه من الصوفية فاشترى يوما من الأيام قطعة لحم فأحب أن يحمله إلى البيت فاستحيا من أهل السوق فعلق اللحم في عنقه وحمله إلى بيته.
قلت: واعجبا من قوم طالبوا أنفسهم بمحو أثر الطبع وذلك أمر لا يمكن ولا هو مراد الشرع وقد ركز في الطباع أن الإنسان لا يحب أن يرى إلا متجملا في ثيابه وأنه يستحي من العري وكشف الرأس. والشرع لا ينكر عليه هذا. وما فعله هذا الرجل من الإهانة لنفسه بين الناس أمر قبيح في الشرع والعقل فهو إسقاط مروءة لا رياضة كما لو حمل نعليه على رأسه.
وقد جاء في الحديث: فإن الله قد "الأكل في السوق دناءة" وجعل لكثير من الناس من يخدمه. فليس من الدين إذلال الرجل نفسه بين الناس، وقد تسمى قوم من أكرم الآدمي الصوفية بالملامتية فاقتحموا الذنوب فقالوا مقصودنا أن نسقط من أعين الناس فنسلم من آفات الجاه والمرائين: وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بامرأة فأحبلها، فقيل له: لم تعزل؟ فقال: بلغني أن العزل مكروه.
[ ص: 345 ] فقيل له: وما بلغك أن الزنا حرام؟ هؤلاء الجهلة قد أسقطوا جاههم عند الله سبحانه ونسوا أن المسلمين شهداء الله في الأرض. أخبرنا ابن حبيب ، نا ابن أبي صادق ، نا قال سمعت ابن باكويه أبا أحمد الصغير سمعت أبا عبد الله بن خفيف سمعت أبا الحسن المديني يقول خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية وكان في إحدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا فبينا أنا أمشي على شاطئ النهر رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة فجمعتهما وقلت: هذه لفقير، ومشيت قليلا فسمعت همهمة وتخبيطا في الماء فنظرت فإذا بأبي الحسن النوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء، فلما رأيته علمت أن الثياب له فنزلت إليه فنظر إلي، وقال يا أبا الحسن أما ترى ما يعمل بي. قد أماتني موتات وقال لي ما لك منا إلا الذكر الذي لسائر الناس. وأخذ يبكي ويقول ترى ما يفعل بي؟ فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل فأقمنا عنده إلى العصر ثم خرجنا إلى المسجد فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويغلقون الأبواب ويصعدون السطوح فسألناهم فقالوا: السباع تدخل القرية بالليل. وكان حوالي القرية أجمة عظيمة وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين، فلما سمع النوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الأجمة على أصول القصب المقطوع ويصيح ويقول: أين أنت يا سبع؟ فما شككنا أن الأسد قد افترسه أو قد هلك في أصول القصب. فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه فأخذنا بالمنقاش ما قدرنا عليه فبقي أربعين يوما لا يمشي على رجليه فسألته أي شيء كان ذلك الحال. قال لما ذكروا السبع وجدت في نفسي فزعا فقلت: لأطرحنك إلى ما تفزعين منه.
قلت: لا يخفى على عاقل تخبيط هذا الرجل قبل أن يقع في الماء والطين وكيف يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في ماء وطين وهل هذا إلا فعل المجانين وأين الهيبة والتعظيم من قوله: ترى ما يفعل بي وما وجه هذا الانبساط وينبغي أن تجف الألسن في أفواهها هيبة. ثم ما الذي يريده غير الذكر ولقد خرج عن الشريعة بخروجه إلى السبع ومشيه على القصب المقطوع وهل يجوز في الشرع أن يلقي الإنسان نفسه إلى سبع أترى أراد منها أن يغير ما طبعت عليه من خوف السباع ليس هذا في طوقها ولا طلبه الشرع منها. ولقد سمع هذا الرجل بعض [ ص: 346 ] أصحابه يقول مثل هذا القول فأجابه بأجود جواب. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب ، نا علي بن أبي صادق ، نا ، نا ابن باكويه يعقوب الحواط ، نا أبو أحمد المغازي قال: رأيت النوري وقد جعل نفسه إلى أسفل ورجليه إلى فوق وهو يقول: من الخلق أوحشتني ومن النفس والمال والدنيا أفقرتني. ويقول ما معك إلا علم وذكر قال فقلت له إن رضيت وإلا فانطح برأسك بالحائط. أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني ، نا سهل بن علي الخشاب ، نا عبد الله بن علي السراج قال سمعت أبا عمرو بن علوان يقول حمل أبو الحسين النوري ثلاثمائة دينار ثمن عقار بيع له، وجلس على قنطرة وجعل يرمي واحدا واحدا منها إلى الماء ويقول: جئت تريدين أن تخدعيني منك بمثل هذا. قال السراج: فقال بعض الناس لو أنفقها في سبيل الله كان خيرا له. فقلت: إن كانت تلك الدنانير تشغله عن الله طرفة عين كان الواجب أن يرميها في الماء دفعة واحدة حتى يكون أسرع لخلاصه من فتنتها كما قال الله عز وجل: ( فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) قلت: لقد أبان هؤلاء القوم عن جهل بالشرع وعدم عقل. وقد بينا فيما تقدم أن وأن لا يسلم إلا إلى رشيد وجعله قواما للآدمي، والعقل يشهد بأنه إنما خلق للمصالح: فإذا رمى به الإنسان فقد أفسد ما هو سبب صلاحه وجهل حكمه الواضع واعتذار الشرع أمر بحفظ المال السراج له أقبح من فعله; لأنه إن كان خاف فتنته فينبغي أن يرميه إلى فقير ويتخلص، ومن جهل هؤلاء حملهم تفسير القرآن على رأيهم الفاسد لأنه يحتج بمسح السوق والأعناق، ويظن بذلك جواز الفساد والفساد لا يجوز في شريعة، وإنما مسح بيده عليها وقال أنت في سبيل الله وقد سبق بيان هذا، وقال أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال أبو جعفر الدراج: خرج أستاذي يوما يتطهر فأخذت كتفه ففتشته فوجدت فيه شيئا من الفضة مقدار أربعة دراهم وكان ليلا وبات لم يأكل شيئا، فلما رجع قلت له: في كتفك كذا وكذا درهما ونحن جياع، فقال: أخذته؟ رده، ثم قال لي بعد ذلك: خذه واشتر به شيئا، فقلت له: بحق معبودك ما أمر هذه القطع فقال: لم يرزقني الله من الدنيا شيئا غيرها فأردت أن أوصي أن تدفن معي فإذا كان يوم القيامة رددتها إلى الله وأقول هذا الذي أعطيتني من الدنيا. أخبرنا ابن حبيب ، نا ابن أبي صادق ، نا ، ثنا ابن باكويه عبد الواحد بن بكر قال سمعت أبا [ ص: 347 ] بكر الجوال سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: مكث أبو جعفر الحداد عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الفقراء ويصوم ويخرج بين العشاءين فيتصدق من الأبواب ما يفطر عليه.
قال المصنف رحمه الله قلت: لو علم هذا الرجل أن لم يفعل، ولو قدرنا جوازها، فأين أنفة النفس من ذل الطلب؟ أخبرنا المسألة لا تجوز لمن يقدر على الاكتساب هبة الله بن محمد ، نا ، نا الحسن بن علي التميمي أحمد بن جعفر ، ثنا ثني أبي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل إسماعيل ، ثنا معمر ، عن أخي الزهري عبد الله بن مسلم عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وما على وجهه مزعة لحم" قال أحمد وحدثنا ، عن حفص بن غياث عن أبيه هشام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يأخذ الرجل حبلا فيحتطب ثم يجيء فيضعه في السوق فيبيعه ثم يستغني به فينفقه على نفسه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". الزبير بن العوام عن
قلت: انفرد به البخاري واتفقا على الذي قبله. وفي حديث عبد الله بن عمرو - والمرة - القوة وأصلها من شدة فتل الحبل يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. فمعنى المرة في الحديث شدة أمر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكل والتعب. قال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" رضي الله عنه: الشافعي أخبرنا لا تحل الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب. ، نا عبد الرحمن بن محمد القزاز أبو بكر بن ثابت أنبأنا أبو سعد الماليني قال سمعت أبا بكر محمد بن عبد الواحد الهاشمي سمعت أبا الحسن يونس بن أبي بكر الشبلي يقول قام أبي ليلة فترك فرد رجل على السطح والأخرى على الدار فسمعته يقول لئن أطرفت لأرمين بك إلى الدار فما زال على تلك الحال حتى أصبح فلما أصبح قال لي: يا بني ما سمعت الليلة ذاكرا الله عز وجل إلا ديكا يساوي دانقين.
قال المصنف رحمه الله: هذا الرجل قد جمع بين شيئين لا يجوزان، أحدهما: مخاطرته بنفسه فلو غلبه النوم فوقع كان معينا على نفسه ولا شك أنه لو رمى بنفسه كان قد أتى معصية عظيمة فتعرضه للوقوع معصية، والثاني أنه منع عينه حظها من النوم، وقد وقال: قال صلى الله عليه وسلم : "إن لجسدك عليك حقا وإن لزوجتك عليك [ ص: 348 ] حقا وإن لعينك عليك حقا" "إذا نعس أحدكم فليرقد". فإذا فترت أمسكت به فأمر بحله. وقال: "ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد" زينب وقد تقدمت هذه الأحاديث في كتابنا هذا. أخبرنا ومر بحبل قد مدته ، نا محمد بن ناصر ، نا أبو عبد الله الحميدي أبو بكر الأردستاني ، ثنا قال سمعت أبو عبد الرحمن السلمي أبا العباس البغدادي يقول: كنا نصحب أبا الحسن بن أبي بكر الشبلي ونحن أحداث، فأضافنا ليلة فقلنا بشرط أن لا تدخل علينا أباك، فقال لا يدخل، فدخلنا داره فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة - ثمان شموع - فجاء وقعد وسطنا فاحتشمنا منه، فقال يا سادة عدوني فيما بينكم طشت شموع، ثم قال أين غلامي فتقدم إليه فقال غنني الصوت الذي كنت تغني: أبو العباس
ولما بلغ الحيرة حادى جملي حارا فقلت: احطط بها رحلي
ولا نحفل بمن سارا
للناس فطر وعيد إني فريد وحيد
طرحوا اللحم للبزا ة على ذروتي عدن
[ ص: 349 ] ثم لاموا البزاة إذ خلعوا منهم الرسن
لو أرادوا صلاحنا ستروا وجهك الحسن
قال المصنف رحمه الله: وهذا فعل قبيح لا يحل لمسلم أن يؤذي نفسه وهو سبب للعمى ولا تجوز إدامة السهر لأن فيه إسقاط حق النفس والظاهر أن دوام السهر والتقلل من الطعام أخرجه إلى هذه الأحوال والأفعال. وبإسناد عن أبي عبد الله الرازي قال: كساني رجل صوفا فرأيت على رأس الشبلي قلنسوة تليق بذلك الصوف فتمنيتها في نفسي، فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إلي فتبعته، وكان عادته إذا أراد أن أتبعه يلتفت إلي فلما دخل داره فقال انزع الصوف فنزعته فلفه وطرح القلنسوة عليه ودعا بنار فأحرقهما، قلت: وقد حكى أبو [ ص: 350 ] حامد الغزالي أن الشبلي أخذ خمسين دينارا فرماها في دجلة وقال: ما أعزك أحد إلا أذله الله، وأنا أتعجب من أبي حامد أكثر من تعجبي من الشبلي لأنه ذكر ذلك على وجه المدح لا على وجه الإنكار فأين أثر الفقه؟ وبإسناد عن حسين بن عبد الله القزويني قال: حدثني من كان مجالسا لبنان أنه قال: تعذر علي قوتي يوما ولحقني ضرورة فرأيت قطعة ذهب مطرحة في الطريق فأردت أخذها فقلت لقطة فتركتها، ثم ذكرت الحديث الذي يروى "لو أن الدنيا كانت دما عبيطا لكان قوت المسلم منها حلالا" فأخذتها وتركتها في فمي ومشيت غير بعيد فإذا أنا بحلقة فيها صبيان وأحدهم يتكلم عليهم، فقال له واحد متى يجد العبد حقيقة الصدق، فقال إذا رمى القطعة من الشدق فأخرجتها من فمي ورميتها.