92 - فصل
[ المتوكل وأهل الذمة ]
وأما المتوكل فإنه صرف أهل الذمة من الأعمال ، وغير زيهم في [ ص: 468 ] مراكبهم وملابسهم ، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه وزادوا على الحد ، وغلبوا على المسلمين لخدمة أمه وأهله وأقاربه ، وذلك في سنة خمس وثلاثين ومائتين ، فكانت الأعمال الكبار كلها أو عامتها إليهم في جميع النواحي ، وكانوا قد أوقعوا في نفس المتوكل من مباشري المسلمين شيئا وأنهم بين مفرط وخائن ، وعملوا عملا بأسماء المسلمين وأسماء بعض الذمة لينفوا التهمة وأوجبوا باسم كل واحد منهم مالا كثيرا ، وعرض على المتوكل فأغري بهم وظن ما أوجبوا من ذلك حقا ، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه ، ودخل سلمة بن سعيد النصراني على المتوكل وكان يأنس به ويحاضره فقال : يا أمير المؤمنين أنت في الصحاري والصيد ، وخلفك معادن الذهب والفضة ، ومن يشرب في آنية الذهب والفضة ويملؤها ذهبا عوضا عن الفاكهة .
[ ص: 469 ] فقال له المتوكل : عند من ؟ فقال : عند الحسين بن مخلد ، ، وأحمد بن إسرائيل وموسى بن عبد الملك ، وميمون بن هارون ، ومحمد بن موسى ، وكل واحد من هؤلاء اسمه ثابت في العمل المقدم ذكره المرفوع للمتوكل ، فقال له المتوكل : ما تقول في عبيد الله بن يحيى ؟ فسكت ، فقال : بحياتي عليك قل لي ما عندك ، فقال : قد حلفتني بحياتك ولا بد لي من صدقك على كل حال ، والله يا أمير المؤمنين لقد صاغ له صوالجة وأكرمن ثلاثين ألف دينار ، فقلت له : أمير المؤمنين يضرب كرة من جلود بصولجان من خشب وأنت تضرب كرة من فضة بصولجان من فضة ! ! فالتفت المتوكل إلى وقال : ابعث فأحضر هؤلاء ، وضيق عليهم . فحضرت جماعة الكتاب وعلموا ما وقعوا فيه من الكافر ، فاجتمعوا إلى الفتح بن خاقان عبيد الله بن يحيى فأنفذ معهم كاتبه إلى سلمة ، وعاتبه فيما جرى منه ، [ ص: 470 ] فحلف إنني لم أفعل ما فعلته إلا على سكر ، ولم أقل ما قلته عن حقيقة فأخذ خطه بذلك ، فدخل عبيد الله بن يحيى على المتوكل وعرفه مأثمة أهل الذمة على المسلمين وغيرهم ، وأوقفه على خط سلمة وقال : هذا قصده أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكتاب المسلمين ، ويتمكن هو ورهطه منها .
وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلمين ويحضرهم بين يديه على خلوة ، فأحضر بين يديه شيخ كبير ، فذكر أنه من أهل دمشق ، وأن سعيد بن عون النصراني غصبه داره ، فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ اشتد غضبه إلى أن كادت تطير أزراره ، وأمره أن يكتب إلى صالح عامله برد داره .
قال : فقمت ناحية لأكتب له بما أمرني فأتبعني رسولا يستحثني فبادرت إليه ، فلما وقف على الكتاب زاد فيه بخطه : نفيت عن الفتح بن خاقان العباس ؛ لئن خالفت فيما أمرت به لأوجهن من يجيئني برأسك ، ووصل الشيخ بألف دينار ، وبعث معه حاجبا ، وكثر تظلم الناس من كتاب أهل الذمة وتتابعت الإغاثات .
وحج المتوكل تلك السنة ، فرئي رجل يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل فأخذه الحرس وجاءوا به سريعا فأمر بمعاقبته ، فقال له : والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته إلا وقد أيقنت بالقتل ، فاسمع كلامي ومر [ ص: 471 ] بقتلي ، فقال : قل ، فقال : سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله ويغضبك يا أمير المؤمنين ، قد اكتنفت دولتك كتاب من الذمة أحسنوا الاختيار لأنفسهم ، وأساءوا الاختيار للمسلمين وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين ، خفتهم ولم تخف الله وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا مسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك ، فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته ، واذكر ليلة تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة ، وأول ليلة يخلو المرء في قبره بعمله ، فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه وطلب الرجل فلم يوجد ، فخرج أمره النصارى واليهود الثياب العسلية ، وألا يمكنوا من لبس الثياب لئلا يتشبهوا بالمسلمين ، ولتكن ركبهم خشبا ، وأن تهدم بيعهم المستجدة ، وأن تطبق عليهم الجزية ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين ، وأن يفرد لهم حمامات خدمها ذمة ، ولا يستخدموا مسلما في حوائجهم لنفوسهم ، وأفرد لهم من يحتسب عليهم وكتب كتابا نسخته : بلبس
" أما بعد ، فإن الله اصطفى الإسلام دينا فشرفه وكرمه وأناره ونصره وأظهره وفضله وأكمله ، فهو الدين لا يقبل غيره ، قال تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ، بعث به صفيه وخيرته من خلقه محمدا - صلى الله عليه وسلم - فجعله خاتم النبيين وإمام المتقين ، وسيد المرسلين : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، وأنزل كتابا عزيزا : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، [ ص: 472 ] أسعد به أمته وجعلهم : خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .
، وقال : وأهان الشرك وأهله ووضعهم وصغرهم وقمعهم وخذلهم ، وتبرأ منهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وطبع على قلوبهم وخبث سرائرهم وضمائرهم ، فنهى عن ائتمانهم والثقة بهم لعداوتهم للمسلمين ، وغشهم وبغضائهم فقال : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
وقال : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا .
[ ص: 473 ] وقال : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء .
وقال : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسا لا رأي لهم ولا روية ، ، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشمهم والعدوان عليهم ، فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله منه ، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه ، ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم ، والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه ، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين ، وحسن الرعاية لما استرعاهم ، والكفاية لما استكفوا ، والقيام بما حملوا ، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله المكذبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلها آخر ، لا إله إلا هو وحده لا شريك له . يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم ، ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين ، ويسلطونهم على الرعية فيعسفونهم
[ ص: 474 ] ورجاء أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك وقذف في قلبه جزيل الثواب وكريم المآب ، والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وحزبه .
فليعلم هذا من رأي أمير المؤمنين ، ولا يستعانن بأحد من المشركين ، وإنزال أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها ، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأشعه فيهم ، ولا يعلمن أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحد من عمالك وأعوانك بأحد من أهل الذمة في عمل . والسلام .