الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 529 ] وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين  رب هب لي من الصالحين  فبشرناه بغلام حليم  فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين  فلما أسلما وتله للجبين  وناديناه أن يا إبراهيم  قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين  إن هذا لهو البلاء المبين  وفديناه بذبح عظيم  وتركنا عليه في الآخرين  سلام على إبراهيم  كذلك نجزي المحسنين  إنه من عبادنا المؤمنين  وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين  وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين  

                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم : إني ذاهب إلى ربي قال ابن عباس : مهاجر إلى ربي، والمعنى: أهجر ديار الكفر وأذهب إلى حيث أمرني الله، كما قال إخبارا عنه أيضا: وقال إني مهاجر إلى ربي ، سيهدين إلى حيث أمرني بالمصير إليه، وهو الشام ، قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين أي: ولدا صالحا من الصالحين، فاستجاب الله له بقوله: فبشرناه بغلام حليم قال الزجاج : وهذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن، ويوصف بالحلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فلما بلغ معه السعي قال قتادة : لما مشى معه. وقال مجاهد ، عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم ، والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه، قالوا: وكان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة، وقال الكلبي : يعني العمل لله، وهو قول الحسن ، ومقاتل ، وابن زيد ، قالوا: هو العبادة والعمل الذي تقوم به الحجة، وهو ما بعد البلوغ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إني أرى في المنام أني أذبحك قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات، وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي.  ، وقال قتادة : رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئا فعلوه.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في الذبيح، من هو؟ فالأكثرون على أنه إسحاق ، وهو قول علي ، وابن مسعود ، وكعب ، ومقاتل ، وعكرمة ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، أنا أبو عمرو بن مطر ، نا الحسن بن سفيان ، نا شيبان ، نا مبارك ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، سمعت العباس بن عبد المطلب يقول: الذي أمر إبراهيم بذبحه هو إسحاق ، عليهما السلام،  وهؤلاء قالوا: كانت هذه القصة بالشام ، وقال آخرون: الذي أمر بذبحه إسماعيل ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والحسن ، ومجاهد ، وابن عباس في رواية عطاء ، سمعت أبا عثمان الحيري الزاهد ، سمعت أبا الحسن بن مقسم ، سمعت أبا إسحاق الزجاج ، يقول: الله أعلم أيهما الذبيح، وسياق هذه الآيات يدل على أنه إسحاق ؛ لأنه قال: فبشرناه بغلام حليم  ولا خلاف أن هذا إسحاق ، ثم قال: فلما بلغ معه السعي فعطف بقضية الذبح على ذكر إسحاق وقوله: فانظر ماذا ترى أي: من الرأي فيما ألقيت إليك، وما الذي تذهب إليه، هل تستسلم له وتنقاد؟ أو تأتي غير ذلك؟ وقرأ حمزة تري بضم التاء وكسر الراء، ومعناه: ما تشير. قال الفراء : ماذا تريني من [ ص: 530 ] صبرك أو جزعك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال يا أبت افعل ما تؤمر قال ابن عباس : ما أوحي إليك من ذبحي، ستجدني إن شاء الله من الصابرين على بلائه، فلما أسلما أي: استسلما لأمر الله وأطاعا، وتله للجبين صرعه على أحد جبينيه، قال ابن عباس : أضجعه على جبينه على الأرض، وللوجه جبينان والجبهة بينهما. قال السدي : ضرب الله على عنقه صحيفة نحاس فجعل إبراهيم ينحر ولا يقطع، ونودي من الجبل: يا إبراهيم ، فهو قوله: وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا لأن الله قد عرف منهما الصدق، حيث قصد إبراهيم الذبح بما أمكنه، وطاوع الابن بالتمكين من الذبح، ففعل كل واحد منهما ما أمكنه وإن لم يتحقق الذبح، وكان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم، ففعل في اليقظة ما رأى في النوم؛ لذلك قيل له: قد صدقت الرؤيا، وتم الكلام، ثم قال: إنا كذلك نجزي المحسنين هذا ابتداء إخبار من الله تعالى وليس يتصل بما قبله من الكلام الذي يؤدي به إبراهيم ، والمعنى: إنا كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده نجزي من أحسن في طاعتنا. قال مقاتل : جزاه الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه. إن هذا لهو البلاء المبين الاختبار الظاهر، حيث اختبر بذبح بكره ووحيده، وقال مقاتل : البلاء هاهنا النعمة، وهو أن فدى ابنه بالكبش، وهو قوله: وفديناه بذبح بكبش "عظيم".

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا المؤمل بن أحمد بن الحسين ، أنا محمد بن عبد الله بن نعيم ، نا محمد ، عن عبد الله الصفار ، نا الحسن بن الجهم ، نا الحسين بن الفرج ، نا أبو عبد الله الواقدي ، حدثني ابن أبي سبرة ، عن ابن مالك ، وكان مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه، عن عطاء بن يسار ، قال: سألت خوات بن جبير : ذبيح الله أيهما كان؟ فقال: إسماعيل ، لما بلغ إسماعيل ابن سبع سنين رأى إبراهيم في النوم في منزله بالشام أنه يذبح إسماعيل ، فركب إليه البراق حتى جاءه، فوجده عند أمه، فأخذ بيده ومضى به إلى حيث أمر، حتى انتهى إلى منحر البدن اليوم، فقال: يا بني إن الله أمرني أن أذبحك. قال إسماعيل : فأطع ربك فإن في طاعة ربك كل خير، ثم قال إسماعيل: هل علمت أمي بذلك؟ قال: لا. قال: أصبت، إني أخاف أن تحزن، ولكن إذا قربت السكين من حلقي فأعرض عني، فإنه أحرى أن تصبر ولا تراني، ففعل إبراهيم ، فجعل يحز في حلقه فإذا هو يحز في نحاس ما تحيك فيه الشفرة، فشحذها مرتين أو ثلاثا بالحجر، كل ذلك لا يستطيع، قال إبراهيم : إن هذا الأمر من الله، فرفع رأسه فإذا هو بوعل واقف بين يديه، فقال إبراهيم : قم يا بني فقد نزل فداؤك، فذبحه هناك.  

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح. والذبح: ما ذبح، قال أكثر المفسرين: أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا، وقال الحسن : ما فدي إلا بتيس من الأروى، قد أهبط عليه من ثبير ، فذبحه [ ص: 531 ] إبراهيم فداء عن ابنه، وما بعد هذا معنى ظاهر إلى قوله: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين من جعل الذبيح إسماعيل قال: بشر الله إبراهيم بولد نبي بعد هذه القصة جزاء لطاعته، ومن جعل الذبيح إسحاق قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق ، وأثيب إسحاق بصبره بالنبوة، وهذا قول عكرمة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وباركنا عليه وعلى إسحاق يعني كثرة ولدهما وذريتهما، وهم الأسباط كلهم، ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين أي: مؤمن محسن بإيمانه، وكافر ظلم نفسه بكفره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية