الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين  فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين  

                                                                                                                                                                                                                                      وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت  وكان ذلك تابوتا أنزله الله على آدم فيه صور الأنبياء، فتوارثه أولاد آدم، وكان في بني إسرائيل يستفتحون به على عدوهم، فغلبتهم العمالقة عليه، فرد الله ذلك التابوت على طالوت، فلما رأوه عنده علموا أن ذلك أمارة ملكه عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فيه سكينة من ربكم أي: طمأنينة، وفي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا، قال الزجاج: أي: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن: جعل الله لهم في التابوت سكينة تطمئن قلوبهم إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون قال المفسرون: هي لوحان من التوراة، ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقى موسى الألواح، قفيز من المن الذي كان ينزل عليهم، ونعلا موسى وعصاه، وعمامة هارون وعصاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأراد بآل " موسى " وآل "هارون": موسى وهارون، والعرب تقول: آل فلان.

                                                                                                                                                                                                                                      يريد: نفسه، وأنشد أبو عبيدة:


                                                                                                                                                                                                                                      ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 359 ] يريد: أبا بكر نفسه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: تحمله الملائكة قال المفسرون: كانت الملائكة تحمل تابوت بني إسرائيل فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إن في ذلك لآية لكم أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم، إن كنتم مؤمنين مصدقين بتمليكه عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فلما فصل طالوت بالجنود أي: سار بهم وقطعهم عن موضعهم، قال إن الله مبتليكم بنهر وهو نهر بين الأردن وفلسطين، وإنما وقع الابتلاء ليتميز الكاذب من الصادق، والمحقق من المقصر، فمن شرب منه فليس مني أي: من أهل ديني وطاعتي، ومن لم يطعمه فإنه مني وطعم كل شيء: ذوقه، يقال: طعمت الماء أطعمه.

                                                                                                                                                                                                                                      بمعنى: ذقته، وأنشد أبو العباس العرجي:


                                                                                                                                                                                                                                      فإن شئت حرمت النساء سواكم     وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

                                                                                                                                                                                                                                      أراد: لم أذق، و "النقاخ": الماء العذب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا من اغترف غرفة بيده الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، و "المغرفة": الآلة التي يغرف بها، و "المغرفة": المرة الواحدة، وهي مصدره، و "الغرفة" -بالضم-: الشيء المغترف والماء المغروف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فشربوا منه إلا قليلا منهم قال المفسرون: قال لهم طالوت: من شرب من النهر وأكثر فقد عصى الله وخالف أمره، وتعرض لعقابه، ومن اغترف غرفة أقنعته.

                                                                                                                                                                                                                                      فهجموا على النهر بعد عطش شديد أضر بهم فوقع [ ص: 360 ] أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قوم قليل عددهم لم يزيدوا على الاغتراف، فأما من اغترف قوي قلبه، وصح إيمانه، وعبر النهر سالما، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، لم يردوا وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، ولم يشهدوا الفتح.

                                                                                                                                                                                                                                      وتلك الغرفة لم تكن ملء الكف، ولكن المراد بالغرفة: أن يغترف مرة واحدة بقربة أو جرة، وما أشبه ذلك، تكفيه وتكفي دابته.

                                                                                                                                                                                                                                      وهؤلاء القليل الذين لزموا الاغتراف، كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر، وما جاز معه إلا مؤمن" .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فلما جاوزه هو جاوز النهر طالوت، والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال ابن عباس والسدي: يعني هؤلاء الذين شربوا وخالفوا أمر الله عز وجل، وكانوا أهل شك ونفاق، وانصرفوا عن طالوت، ولم يشهدوا قتال جالوت.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الذين يظنون يستيقنون ويعلمون، أنهم ملاقو الله راجعون إليه، يعني القليل الذين اغترفوا، كم من فئة جماعة، قليلة في العدد، غلبت فئة كثيرة عددهم، بإذن الله بإرادته ذلك، والله مع الصابرين على قتال أعدائه بالنصرة والمعونة.

                                                                                                                                                                                                                                      يعني: أن النصر مع الصبر.  

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية