الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير الم  ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين  الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون  والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون  أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل: (الم) : كثر اختلاف المفسرين في الحروف المقطعة في القرآن  ، فذهب قوم إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلا إلى إدراك معانيها، وأنها مما استأثر الله تعالى بعلمها، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل علمها إلى الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال داوود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داوود إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما سوى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 76 ] وفسرها الآخرون، فقال ابن عباس ، في رواية سعيد بن جبير وأبي الضحى : الم أنا الله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الضحاك : كل الم في القرآن: أنا الله أعلم، وهذا اختيار الزجاج ، قال: المختار ما روي عن ابن عباس هو أن معنى الم: أنا الله أعلم، وأن كل حرف منها له تفسير، قال: والدليل على ذلك أن العرب قد تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      قلت لها قفي لنا قالت قاف

                                                                                                                                                                                                                                      فنطق بقاف فقط يريد: قالت قف، ويروى عن الحسن ، أنه قال: الم وسائر حروف التهجي في القرآن: أسماء للسور وعلى هذا القول إذا قال القائل: قرأت (المص) عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت بـ(المص) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل: (ذلك الكتاب) : ذلك يجوز أن يكون بمعنى: هذا، عند كثير من أهل التفسير.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : ومثاله في الكلام أنك تقول: قد قدم فلان، فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، أو يقول: قد بلغنا [ ص: 77 ] الخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      فصلحت "هذا" لأنه قرب من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت "ذلك" لانقضاء كلامه، والمنقضي كالغائب. وذكر ابن الأنباري لهذا شرحا شافيا فقال: إنما قال عز ذكره: ذلك الكتاب، فأشار إلى غائب؛ لأنه أراد: هذه الكلمات يا محمد ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك؛ لأن الله تعالى لما أنزل على نبيه عليه السلام: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا كان واثقا بوعد الله إياه، فلما أنزل الله تعالى عليه: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه دله على الوعد المتقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : القرآن: ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى ، وعيسى فجعل "الم" بمعنى القرآن؛ لأنه من القرآن. والكتاب مصدر كتبت، ويسمى المكتوب كتابا، كما يسمى المخلوق خلقا، والمفعول يسمى بالمصدر، يقال: هذا درهم ضرب الأمير، أي: مضروبه، وهذا الثوب نسج اليمن، أي: منسوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الكتب في اللغة: الجمع والضم، يقال: كتبت البغلة إذا ضممت بين شفريها بحلقة، وكتبت السقاء إذا خرزته، والكتب: الخروز، واحدتها: كتبة، والكتابة: جمع حرف إلى حرف، والمراد بـ"الكتاب" هاهنا: القرآن، في قول جميع المفسرين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا ريب فيه: الريب: الشك، قال أبو زيد : يقال: رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا إذا كنت مستيقنا منه الريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فيه إذا ظننته من غير أن تستيقنه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه : "لا" تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب "إن" ، إلا أنها تنصب بغير تنوين، وإنما شبه "لا" بـ"إن"؛ لأن "إن" للتحقيق في الإثبات و"لا" في النفي، فلما كان لا تقتضي تحقيق النفي كما تقتضي "إن" تحقيق الإثبات أجري مجراه، وهي مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 78 ] وموضع "لا ريب" رفع بالابتداء عند سيبويه ؛ لأنه بمنزلة "خمسة عشر" إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه -بالرفع- في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      لا أم لي أن كان ذاك ولا أب

                                                                                                                                                                                                                                      وموضع "فيه": رفع لأنه خبر بالابتداء الذي هو "لا ريب".

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: كيف قال لا ريب فيه وقد ارتاب به المبطلون؟ قيل: معناه: أنه حق في نفسه، وصدق وإن ارتاب به المبطلون، كما قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      ليس في الحق يا أمامة ريب     إنما الريب ما يقول الكذوب



                                                                                                                                                                                                                                      فنفى الريب عن الحق، وإن كان المتقاصر في العلم يرتاب، ويجوز أن يكون خبرا في معنى النهي، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "هدى للمتقين" معنى الهدى: البيان؛ لأنه قوبل به الضلالة في قوله عز وجل: واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، أي: من قبل هداه، ومعنى الاتقاء في اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بترسه، أي: جعل الترس حاجزا بينه وبينه، ومنه التقية في الدين: يجعل ما يظهر حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه، ومنه الحديث: " كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أقربنا إلى العدو" .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 79 ] فالمتقي: هو الذي يتحرز بطاعته عن العقوبة، ويجعل اجتنابه عما نهي عنه، وفعله ما أمر به حاجزا بينه وبين العقوبة التي توعد بها العصاة، والمراد بـ"المتقين" في هذه الآية: المؤمنون الذين اتقوا الشرك، وجعلوا إيمانهم حاجزا بينهم وبين الشرك، كأنه قال: القرآن بيان وهدى لمن اتقى الشرك وهم المؤمنون، وخص المؤمنين بأن الكتاب بيان لهم دون الكفار -الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب- لانتفاعهم به دونهم، كقوله تعالى: إنما أنت منذر من يخشاها ، وكان عليه السلام منذرا لمن خشي ولمن لم يخش.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري : معناه: هدى للمتقين والكافرين، فاكتفى بأحد الفريقين عن الآخر كقوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر ، أراد الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إعراب "هدى" فقال الزجاج : يجوز أن يكون موضعه نصبا على الحال كأنه قال: هاديا للمتقين، ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار هو، كأنه لما تم الكلام قيل: هو هدى، ويجوز أن يكون الوقف على قولك "لا ريب"، أي: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا، لأن لا شك بمعنى حقا، ثم قيل بعد "فيه هدى".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب قال الزجاج : موضع الذين خفض نعتا للمتقين. ومعنى يؤمنون: يصدقون، قال الأزهري : اتفق العلماء أن الإيمان معناه التصديق  ، كقوله: وما أنت بمؤمن لنا أي: بمصدق.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 80 ] ومعنى التصديق: هو اعتقاد السامع صدق المخبر فيما يخبر، فمن صدق الله تعالى فيما أخبر به في كتابه وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر معتقدا بالقلب تصديقهما فهو مؤمن، وأنشد ابن الأنباري -على أن "آمن" معناه: صدق- قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      ومن قبل آمنا وقد كان قومنا     يصلون للأوثان قبل محمدا



                                                                                                                                                                                                                                      معناه: من قبل آمنا محمدا ، أي: صدقنا محمدا ، والغيب: ما غاب، وهو مصدر غاب يغيب غيبا، وكل ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب، قال الله تعالى: عالم الغيب والشهادة والعرب تسمي المكان المنخفض من الأرض: الغيب؛ لأنه غائب عن الأبصار. والمراد بـ"الغيب" المذكور هاهنا: ما غاب علمه عن الحس والضرورة مما يدرك بالدليل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، كل هذا غيب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو العالية : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وجنته وناره، ولقائه، وبالبعث بعد الموت.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وكل ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو غيب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية