الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين  فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين  وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم  إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين  فإذا انسلخ الأشهر الحرم [ ص: 476 ] فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم  وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: براءة من الله الآية: قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهودا بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله أن ينقض عهودهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: أي: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا.

                                                                                                                                                                                                                                      والخطاب في: عاهدتم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتولي للعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم أدخلوا في الخطاب، لأنهم راضون بفعله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر يقال: ساح يسيح سياحة وسيوحا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: معناه: اذهبوا فيها وأقبلوا وأدبروا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة، ومن كانت مدته أقل من أربعة رفعه إلى الأربعة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري: الأربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس في رواية الوالبي: حد الله للذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث ما شاءوا، وأحل من ليس له عهد عند انسلاخ الأشهر الحرم، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيهم حتى يدخلوا في الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: واعلموا أنكم غير معجزي الله قال ابن عباس: حيثما كنتم وحيثما توجهتم لا يعجز الله عن نقمته فيكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: أي: وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وأن الله مخزي الكافرين بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة، والإخزاء: الإذلال بما فيه من الفضيحة والعار، قوله: وأذان من الله ورسوله الأذان: الإعلام وهو اسم من الإيذان، يقال: آذن إيذانا، وأذانا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إلى الناس أي: للناس، يقال: هذا إعلام لك، وإليك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأراد بالناس: المؤمن والمشرك والكافر لأن الكل داخلون في هذا الإعلام، قوله: يوم الحج الأكبر اختلفوا فيه: فقال عمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد: إنه يوم عرفة.

                                                                                                                                                                                                                                      ونحو هذا روى المسور بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد، أنا محمد بن عبد الله بن الفضل، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا [ ص: 477 ] محمد بن حيويه، ويحيى بن محمد بن يحيى، قالا: نا عبد الرحمن بن المبارك العيشي، نا عبد الوارث بن سعيد، نا ابن جريج، عن محمد بن قيس، عن المسور بن مخرمة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد: فإن هذا يوم الحج الأكبر   " وذكر الحديث وقال ابن عباس في رواية عطاء: يوم الحج الأكبر يوم النحر.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو قول الشعبي، والنخعي، والسدي، وسعيد بن جبير، ورواية ابن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا محمد بن إبراهيم المزكي، أنا أبو بكر بن عبد الله بن يحيى الطلحي، نا أحمد بن سعيد بن شاهين، نا محمد بن بكار، نا حفص بن عمر قاضي حلب، عن سليمان الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأضحى: " هذا يوم الحج الأكبر "  ومعنى الحج الأكبر: الحج بجميع أعماله، والحج الأصغر العمرة، وقال قوم: يوم الحج الأكبر حين الحج أيامه كلها، كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم بعاث لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: أن الله بريء من المشركين أي: من عهد المشركين فحذف المضاف، ورسوله [ ص: 478 ] رفع بالابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضا برئ، قال المفسرون: لما فتح الله مكة سنة ثمان من الهجرة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وأرجف المنافقون الأراجيف، جعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإلقاء عهودهم إليهم، فلما كانت سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم، ليقيم للناس الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فقال: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا.

                                                                                                                                                                                                                                      فخرج علي على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة، فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال: لا ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى يا رسول الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فسار أبو بكر أميرا على الحج وعلي ليؤذن بـ (براءة).

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الزجاج: السبب في تولية علي تلاوة براءة  قال: إن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منها، وكان جائزا أن يقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من الرسول من هو من غير رهطه: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود.

                                                                                                                                                                                                                                      فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك، وشرح عمرو بن بحر الجاحظ هذه القصة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الحجاج وولاه الموسم، وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة وكان أبو بكر الإمام، وعلي المؤتم به، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع، وكان أبو بكر الرافع الموسم ولم يكن لعلي أن يرفع حتى يرفع أبو بكر، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: لا يبلغ عني إلا رجل مني فإن هذا ليس بتفضيل منه لعلي على غيره، ولكن عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعارفه من بعض كعادتهم في عقد الحلف وحل العقد، كان لا يتولى ذاك إلا السيد منهم أو رجل من رهطه دينا، كأخ أو عم، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول.

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل على هذا ما لجملة الحديث الصحيح الذي.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا عمرو بن أبي عمرو المزكي، أنا محمد بن مكي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل البخاري، أنا عبد الله بن يوسف، نا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر بـ براءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان  وقوله: فإن تبتم رجع إلى خطاب المشركين، يريد: فإن رجعتم عن الشرك إلى توحيد الله، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك وإن توليتم عن الإيمان، فاعلموا أنكم [ ص: 479 ] غير معجزي الله لا تعجزونه عن تعذيبكم ولا تفوتون بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه في الدنيا، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا الذين عاهدتم من المشركين قال المفسرون: استثنى الله طائفة وهم بنو ضمرة ، حي من كنانة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام عهودهم، وكان قد بقي لهم من مدة عهدهم تسعة أشهر، وقوله: ثم لم ينقصوكم أي: من شروط العهد، شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا لم يعاونوا عليكم عدوا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم أي: إلى انقضاء مدتهم، إن الله يحب المتقين يحب من اتقاه بطاعته واجتناب معاصيه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم أي: مضى وذهب، وذهابها بانسلاخ المحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أي: في الحل والحرم، وخذوهم بالأسر، واحصروهم قال ابن عباس: يريد: إن تحصنوا فاحصروهم، والحصر هاهنا المنع عن الخروج من محيط، واقعدوا لهم كل مرصد أي: على كل طريق يأخذون فيه، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، فإن تابوا من الشرك، وأقاموا الصلاة المفروضة، وآتوا الزكاة من الأموال العين والمواشي والثمار، فخلوا سبيلهم حتى يذهبوا حيث شاءوا، إن الله غفور لمن تاب وآمن، رحيم به، وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استجارك طلب منك الأمان والجوار، فأجره من القتل، حتى يسمع كلام الله القرآن وما أمر به ونهى عنه، ثم أبلغه مأمنه الموضع الذي يأمن فيه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون أي: الأمر ذلك، وهو أن يعرفوا ويجاروا لجهلهم، فربما يعرفون فيسلمون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية