وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قوله تعالى: وإذ استسقى موسى الآية، قال المفسرون: عطش بنو إسرائيل في التيه، فقالوا: يا موسى ، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى ، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك الحجر.
قال : وكان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل، أمر أن يحمله معه، فكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه فينفجر عيونا، لكل سبط عين. ابن عباس
وقوله تعالى: (فانفجرت) فيه اختصار، والمعنى: فضرب فانفجرت، أي: انشقت، والانفجار: الانشقاق، والفجر في اللغة: الشق، وسمي فجر النهار لشقه ظلمة الليل، وقوله قد علم كل أناس مشربهم أراد: كل أناس منهم، يعني الأسباط، وكانوا اثني عشر سبطا.
[ ص: 146 ] والمشرب يجوز أن يكون مصدرا كالشرب، ويجوز أن يكون موضعا.
قال المفسرون: كان في ذلك الحجر اثنتا عشرة حفرة، فكانوا إذا نزلوا وضعوا الحجر، وجاء كل سبط إلى حفرته فحفروا الجداول إلى أهلها، فذلك قوله تعالى: قد علم كل أناس مشربهم .
وقوله تعالى: (كلوا) أي: وقلنا لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ولا مؤونة، ولا تعثوا في الأرض مفسدين يقال: عثي يعثى عثوا، وهو أشد الفساد.
قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد الطعام: اسم جامع لما يؤكل، وإنما قالوا: طعام واحد وكان طعامهم المن والسلوى، لأنهم كانوا يأكلون المن بالسلوى، فكان طعاما واحدا كالخبيص، لون واحد وإن اتخذ من أطعمة شتى.
قال المفسرون: إنهم ملوا عيشهم وما كانوا يأكلونه، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فقالوا لموسى : فادع لنا ربك أي: ادع لأجلنا ربك، وسله وقل له: يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وهو كل نبات لا يبقى له ساق إذا رعته الماشية، وقثائها وهو نوع من الخضراوات، وفومها وهو الحنطة بلا اختلاف بين أهل اللغة، فقال لهم موسى : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير أي: أقرب وأسهل متناولا بالرفيع الجليل الذي خصكم الله به؟ .
ويجوز أن يكون معنى الدنو في قرب القيمة، يقول: أتأخذون ما هو أقل قيمة بدلا بالذي هو خير في القيمة؟ .
ويجوز أن يكون أدنى من الدناءة، وهي الخسة، وترك همزها، والمعنى: أتستبدلون ما هو أوضع وأخس بالذي هو خير؟، وهذا اختيار . الفراء
[ ص: 147 ] وقوله تعالى: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم أي: انزلوا مصرا من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار، وفي الكلام إضمار كأنه قيل: فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا لهم: اهبطوا مصرا، ويجوز أن يكون أراد: مصر بعينها، وصرفها لخفتها وقلة حروفها، مثل: جمل، ودعد، وهند.
وقوله تعالى: وضربت عليهم الذلة أي: ألزموها إلزاما لا تبرح عنهم، وأصله من ضرب الشيء على الشيء، كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه.
يقال: ضرب فلان على عبده ضريبة، وضرب السلطان على التجار ضريبة، أي: ألزمهم شيئا معلوما يؤدونه إليه.
والذلة: الذل، والمسكنة: مصدر فعل المسكين، يقال: تمسكن الرجل إذا صار مسكينا.
قال ، الحسن : (وضربت عليهم الذلة)، هي أنهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وقال وقتادة : هي الكستينج وزي اليهودية، والمسكنة: زي الفقر، فترى المثري منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية، ولا يوجد يهودي غني النفس. عطاء بن السائب
وقوله تعالى: وباءوا بغضب من الله : أي: رجعوا، في قول . الفراء
وقال : انصرفوا به، ولا يكون (باءوا) إلا بشيء، إما بخير وإما بشر، يقال: باء يبوء بوءا وبواء، ولا يكون (باء) بمعنى مطلق الانصراف. الكسائي
[ ص: 148 ] وقال عبيدة ، : باءوا بغضب: احتملوه، يقال: قد بؤت بهذا الذنب، أي: احتملته، ومنه قوله تعالى: والزجاج أن تبوء بإثمي وإثمك .
ومعنى غضب الله ذمه إياهم، وإنزال العقوبة بهم.
وقوله: ذلك إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله قال : يريد: الحكمة التي أنزلت على ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: ويقتلون النبيين يعني: من قتلهم اليهود من الأنبياء مثل زكريا ويحيى ، وشعيا .
وقوله: بغير الحق أي: قتلا بغير حق، يعني: بالظلم، وأكثر العرب على ترك همزة النبي وبابه، قال : اجتمعت العرب على حذف الهمزة من أربعة أحرف: من "النبي"، "والذرية"، "والخابية"، "والبرية"، وأصلها الهمزة. أبو عبيدة
قال ، وعدة معه: اشتقاق النبي من نبأ، وأنبأ، أي: أخبر، وترك همزه لكثرة الاستعمال، وهذا مذهب الزجاج سيبويه ، واستردأ سيبويه همز النبي والبرية، لأن الغالب في استعمالها تخفيف الهمزة، وحجة من همز "النبي" أن يقول: هو أصل الكلمة، ولا ينكر أن يؤتى بالكلمة على أصلها.
[ ص: 149 ] وقوله تعالى: ذلك بما عصوا أي: ذلك الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي، وكانوا يعتدون يتجاوزون ويرتكبون محارمي، "والاعتداء": تجاوز الحد.