الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون  وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون  ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون   [ ص: 166 ] أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله قرئ بالياء والتاء، وما كان من مثل هذا جاز أن يكون على لفظ الغيبة، من حيث كان اللفظ لها، وجاز أن يكون على لفظ المخاطب، لأنك تحكي حال الخطاب وقت ما تخاطب، ألا ترى أنهم قد قرؤوا: (قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون) على لفظ الغيبة، وبالتاء على حكاية حال الخطاب، وإذا كان هذا النحو جائزا جاز أن تجيء القراءة بالوجهين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وبالوالدين إحسانا تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، كأنه لما قال: أخذنا ميثاقهم قال: وقلنا لهم: أحسنوا بالوالدين إحسانا، ويقال: أحسن به، وأحسن إليه، قال الله تعالى: وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ، وقال: وأحسن كما أحسن الله إليك ومعنى الإحسان بالوالدين: البر بهما والعطف عليهما. وقوله: وذي القربى يعني: القرابة في الرحم، واليتامى جمع يتيم، مثل: نديم وندامى، وهو المنفرد من أبيه ما دام طفلا، والمساكين يعني الفقراء وقولوا للناس حسنا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وابن جريج ، ومقاتل ، والأكثرون: وقولوا للناس صدقا وحقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا له صفته، ولا تكتموا أمره، ولا تغيروا نعته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الربيع ، وعطاء ، ومحمد بن علي الباقر : هذا على العموم في تحسين المقالة للناس كلهم. وقال الحسن ، والثوري : يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن يأمروهم بما أمرهم الله به، وينهوهم عما نهاهم الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 167 ] وقال عطاء ، عن ابن عباس : المراد بالناس في هذه الآية: محمد عليه السلام، كقوله تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، فكأنه يقول: قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا، وقرئ: حسنا وحسنا، وكلاهما واحد؛ لأن الحسن لغة في الحسن، كالبخل والبخل، والرشد والرشد، وبابه، حكى الزجاج عن الأخفش هذا القول فقال: زعم الأخفش أنه يجوز أن يكون (حسنا) في معنى حسنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (ثم توليتم) أي: أعرضتم عن العهد والميثاق، إلا قليلا منكم يعني: من كان ثابتا على دينه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم معرضون كأوائلكم في الإعراض عما عهد إليكم في كتابكم، ومعنى الإعراض: الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم .

                                                                                                                                                                                                                                      "السفك": صب الدم، يقال: سفك يسفك ويسفك: لغتان، ودماء: جمع دم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس ، وقتادة : لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تخرجون أنفسكم من دياركم أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره وغلبه عليها، ثم أقررتم أي: قبلتم ذلك وأقررتم به، وأنتم تشهدون اليوم على إقرار أوائلكم بأخذ الميثاق عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ثم أنتم الخطاب لقريظة والنضير ، هؤلاء أراد: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، تقتلون [ ص: 168 ] أنفسكم يقتل بعضكم بعضا، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم روى الربيع ، عن أبي العالية ، قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكون دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وإن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وقد كشف السدي عن هذا فقال: أخذ الله تعالى عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، وذلك أن قريظة كانت حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، وكانوا يقتتلون، وذلك أن قريظة مع الأوس ، والنضير مع الخزرج ، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقولون: إنا قد أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن يستذل حلفاؤنا فذلك حين عيرهم الله تعالى عليه، فقال: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم ، قرئ بتخفيف الظاء وتشديدها، فمن شدد أدغم التاء في الظاء لمقاربتهما، ومن خفف حذف التاء لكراهة اجتماع المثلين، والمعنى: تتعاونون على أهل ملتكم بالمعصية والظلم، والمظاهرة: المعاونة، ومنه قوله تعالى: وإن تظاهرا عليه ، وقوله: سحران تظاهرا ، وقوله تعالى: بالإثم والعدوان العدوان: الإفراط في الظلم، يقال: عدا عدوا وعدوانا وعدوا وعداء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وإن أتوكم مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم، وقرئ أسارى، وأسرى، وهما جمع أسير، وأسير: فعيل في معنى مفعول، وإذا كان كذلك فجمعه: فعلى، نحو لديغ [ ص: 169 ] ولدغى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى فالأسرى: هو القياس في جمع أسير.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قال: "أسارى" شبهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرفه للأسرى كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته، شبه به، فقيل في جميعه: أسارى كما قيل: كسالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه : قالوا: "كسلى" شبهوه بـ"أسرى"، كما قالوا: أسارى شبهوه بـ"كسالى". وقوله تعالى: (تفادوهم) قرئ أيضا بوجهين: بألف: من المفاداة، وبغير ألف: من الفداء، يقال: فديته بمال، قال الله تعالى: وفديناه بذبح عظيم ، ويقال: فادى الأسير، إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا، ومعنى فديته بالشيء: خلصته به، وجعلته عوضا عنه صيانة له، والقراءتان معناهما واحد، وإنك تقول: فديته بالمال وفاديته وافتديته.

                                                                                                                                                                                                                                      قال طرفة :


                                                                                                                                                                                                                                      على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها وأفتدي



                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى وفديناه بذبح عظيم : خلصناه به من الذبح، والمفعول الثاني محذوف من الآية؛ لأن المعنى: تفدونهم، أو تفادونهم بالمال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وهو محرم عليكم إخراجهم هو إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره في قوله: وتخرجون فريقا ، ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي حرم عليهم الإخراج، فقال: وهو محرم عليكم ، ولو اقتصر على هذا القدر اشتبه أن يرجع ذلك إلى فداء الأسرى، فأظهر المكني عنه وأعاده فقال: إخراجهم، ونظم الآية، على التقدير والتأخير؛ لأن التقدير: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم وهو محرم عليكم إخراجهم وإن يأتوكم أسرى تفدوهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"المحرم": الممنوع منه، والحرام: كل ممنوع من فعله، والمحروم: الممنوع منه ما ناله سواه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 170 ] وقوله تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب يعني فداء الأسرى، وتكفرون ببعض يعني المقاتلة والإخراج من الديار. وقوله تعالى: فما جزاء من يفعل ذلك منكم استفهام في معنى توبيخ، إلا خزي في الحياة الدنيا يعني ما نال بني قريظة وبني النضير ؛ لأن بني النضير أجلوا من مساكنهم، وبني قريظة أبيروا بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"الخزي": الهوان والفضيحة، وقد أخزاه الله، أي: أهانه وفضحه، وفي القرآن: ولا تخزون في ضيفي أي: لا تفضحون.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أعلم الله تعالى أن ذلك غير مكفر عنهم ذنوبهم فقال: ويوم القيامة يردون يرجعون، إلى أشد العذاب أي: لا روح فيه باتصال أجزائه، وقيل: إلى عذاب أشد من عذاب الدنيا. وما الله بغافل عما تعملون وعيد لهم وتهديد، فمن قرأ بالياء فهو على الإخبار عنهم، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، ثم أخبر أنهم استبدلوا قليل الدنيا بكثير الآخرة فقال: أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة أي: اختاروا الحياة في هذه الدنيا بالنعيم المقيم والعز الدائم في الآخرة، فلا يخفف أي: لا يهون، عنهم العذاب ولا هم ينصرون أي: يمنعون من عذاب الله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية