الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون  وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون  ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين  بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين  وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين  

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 171 ] قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل أي: أرسلنا رسولا يقفو رسولا في الدعاء إلى توحيد الله والقيام بشرائع دينه.

                                                                                                                                                                                                                                      يقال: قفا أثره، وقفا غيره على أثره، أي: أتبعه إياه.

                                                                                                                                                                                                                                      وآتينا عيسى ابن مريم البينات وهي العلامات الواضحة التي ذكرها في سورة آل عمران، والمائدة، وأيدناه قويناه، يقال: آيده وأيده، إذا قواه، والأيد والآد: القوة، بروح القدس قال قتادة والربيع ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء ، عن ابن عباس : إنه جبريل ، وكان قرينه يسير معه حيثما سار، وصعد به إلى السماء لما قصد قتله، ومثله قوله تعالى: قل نزله روح القدس يعني: جبريل، وإنما سمي بذلك لأن الغالب على جسمه الروحانية، لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وأضيف إلى "القدس"، وهو الطهارة؛ لأنه لا يقترف ذنبا ولا يأتي مأثما، وقرئ "القدس" بالتخفيف والتثقيل، وهما نعتان مثل: العنق والعنق، والحلم والحلم، وبابه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (أفكلما جاءكم) يا معشر اليهود، رسول بما لا تهوى أنفسكم بما لا يوافق أهواءكم، استكبرتم أي: تعظمتم عن الإيمان به، وذلك أنهم كانت لهم الرئاسة وكانوا متبوعين، فآثروا الدنيا على الآخرة، ففريقا كذبتم مثل: عيسى ومحمد عليهما السلام، وفريقا تقتلون مثل: يحيى وزكريا عليهما السلام، نظير قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ، و "الفريق": الطائفة من الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ] ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عرفوا أنه الوحي، يوبخهم الله تعالى بما صنعوا، وقالوا يا محمد ، قلوبنا غلف وهو جمع: أغلف، وكل شيء في غلاف فهو أغلف، يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف، إذا لم يختتن.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : إنهم قالوا استهزاء وإنكارا لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم: قلوبنا عليها غشاوة، فهي أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد فأكذبهم الله فيما قالوا، وقال: بل لعنهم الله أي: أبعدهم من رحمته وطردهم، و"اللعن" في اللغة: الإبعاد، ثم يسمى التعذيب والسب والشتم لعنا.

                                                                                                                                                                                                                                      يقول الله تعالى: ليس كما ذكروا من أن قلوبهم في الغلاف فلا تفهم، ولكن الله لعنهم وأخزاهم ولم يجعل لهم سبيلا إلى فهم ما يقول محمد ، وإن فهموا حرموا الانتفاع به. فهذا معنى لعن الله اليهود في هذا الموضع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (بكفرهم) أي: بإقامتهم على كفرهم، وتركهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جعل الله جزاءهم على ذلك أن لعنهم، "فقليلا ما يؤمنون" قال قتادة : معناه: لا يؤمنون منهم إلا قليل؛ لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، "وما" صلة، وانتصب قليلا على الحال على تقدير: فيؤمنون قليلا كعبد الله بن سلام وأصحابه.

                                                                                                                                                                                                                                      والآية رد على القدرية ؛ لأن الله تعالى بين أن كفرهم بسبب لعنه إياهم، وأنه لما أراد كفرهم وشقاءهم منعهم الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله يعني القرآن، مصدق موافق، لما معهم لأنه جاء على ما تقدم به الأخبار في التوراة، فهو مصداق الخبر المتقدم، وكانوا يعني اليهود، من قبل أي: من قبل [ ص: 173 ] هذا الكتاب، يستفتحون على الذين كفروا يستنصرون الله عليهم بالقرآن، والنبي المبعوث آخر الزمان.

                                                                                                                                                                                                                                      قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر ، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، وقالت: اللهم إنما نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم. فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو قوله تعالى: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به يعني الكتاب، وذلك أنهم كانوا قد قرؤوا في التوراة أن الله يبعث في آخر الزمان نبيا وينزل عليه قرآنا مبينا، فلعنة الله على الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      بئس: لفظ وضع للذم، يخبر به عن الشيء المذموم، وهو مستوف لجميع الذم، ومعنى الاشتراء هاهنا: البيع، وهو من الأضداد، والمعنى: بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر، يريد: أنهم اختاروا الكفر وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنار؛ لأن اليهود، خصوصا، علموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأن من كذبه فالنار عاقبته، فاختاروا الكفر وسلموا أنفسهم للنار، فكان ذلك كالبيع منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (بغيا) أي: حسدا، قال اللحياني : يقال: بغيت على أخيك بغيا، أي: حسدته، فالبغي أصله الحسد، ثم سمي الظلم بغيا لأن الحاسد يظلم المحسود جهده؛ طلبا لإزالة نعمة الله عنه، قال الله تعالى: ثم بغي عليه لينصرنه الله ، وقال: والذين إذا أصابهم البغي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس : إن كفر اليهود لم يكن شكا ولا اشتباها، ولكن كان بغيا منهم، حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل ، وقال السدي : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل ؟.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 174 ] وقوله تعالى: أن ينزل الله من فضله أي: إنزال الله، والمعنى: حسدا إنزال الله الكتاب، على من يشاء من عباده يعني محمدا عليه السلام، فباءوا بغضب على غضب قال قتادة : الأول: بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بكفرهم بمحمد والقرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي : أما الغضب الأول: فحين غضب الله عليهم في عبادة العجل، والثاني: حين كفروا بمحمد عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : الأول: بتبديلهم التوراة قبل خروج محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: بجحودهم النبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به، وللكافرين يعني: الجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، "عذاب مهين" يهانون فيه ولا يعزون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإذا قيل لهم أي: لليهود، آمنوا بما أنزل الله يعني القرآن، قالوا نؤمن بما أنزل علينا يعنون التوراة، ويكفرون بما وراءه قال ابن الأنباري : تم الكلام عند قوله: بما أنزل علينا، ثم ابتدأ الله تعالى بالإخبار عنهم فقال: ويكفرون بما وراءه أي: بما سواه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء : وذلك كثير في العربية، يتكلم الرجل بالكلام الحسن، فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيء يريد: ليس سوى هذا الكلام شيء، ويحتمل بما وراءه: بما بعده، أي: بما بعد التوراة، يريد: الإنجيل والقرآن، ومثل هذا قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم أي: ما بعده وما سواه، وقوله: فمن ابتغى وراء ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 175 ] قوله تعالى: (وهو الحق) يعني ما وراء التوراة من الإنجيل والقرآن، أخبر الله تعالى أن ما يكفرون به هو الحق، مصدقا لما معهم قال الزجاج : في هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم؛ إذ كفروا بما يصدق ما معهم، قال: ونصبت مصدقا على الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بقوله: قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل وهذا تكذيب لقولهم: نؤمن بما أنزل علينا أي: أي كتاب جوز فيه قتل نبي، وأي دين جوز فيه ذلك؟.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بلفظ الاستقبال هاهنا: المضي، وجاز ذلك لأنه لا يذهب الوهم إلى غيره بقوله: "من قبل"، ودليل هذا قوله: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ، وأضاف القتل إلى المخاطبين، وإن كان آباؤهم قد قتلوا، لأنهم كانوا يتولون الذين قتلوا، فهم على مذهبهم، وإذا كانوا كذلك فقد شركوهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : كلما عملت معصية فمن أنكرها برئ منها، ومن رضي بها كان كمن شهدها. وقوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين): إن بمعنى الشرط وجوابها قبلها، على تقدير: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون أنبياء الله؟ لأنه ليس سبيل المؤمنين أن يقتلوا الأنبياء، ولا يتولوا قاتليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية