الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب

              فمن ذلك قول أبي سعيد الخدري أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه يستقى لك من بئر بضاعة، فإنه يلقى فيها ما ينجي الناس والمحايض،  يعني بقوله: وإنه يلقى فيها ما ينجي الناس، يعني ما يحدثون من القذر، وهو النجو، يقال منه: أنجى فلان، إذا خري، فهو ينجي إنجاء، وهو نجو فلان، ويقال: ضرب فلان فلانا حتى أنجى، وللنجو أيضا معنى آخر، وهو مصدر من قولهم: نجا فلان أغصان الشجر فهو ينجوها نجوا، إذا قطعها، والنجو أيضا السحاب الذي قد هراق ماءه، فإن أدخلت فيه هاء التأنيث، كانت بخلاف هذه المعاني كلها، وذلك قولهم: فلان بنجوة من هذا الأمر، إذا كان بارتفاع منه حيث لا يصيبه منه أذى ولا مكروه، كما قال: أوس بن حجر في صفة غيث:

              فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح



              [ ص: 749 ] والنجوة: ما ارتفع من الأرض

              وأما قوله في الخبر الآخر: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه يستقي لك من بئر بضاعة، وإنه يلقى فيها المحايض وعذر الناس، فإن العذر جمع عذرة

              وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رواه أبو هريرة عنه، أنه سئل عن الحياض بين مكة والمدينة، فقيل له: يردها الكلاب والسباع: "لها ما في بطونها منه وما غبر فهو لنا طهور" ، فإنه يعني بقوله: "وما غبر"  ، وما بقي، ومنه قول العجاج:

              فما ونى محمد مذ أن غفر     له الإله ما مضى وما غبر

              وأما قول عاصم بن المنذر: دخلت مع عبد الله بن عبد الله بن عمر بستانا وفيه مقرى، فإنه يعني بالمقرى: الحوض يجمع فيه الماء، يقال [ ص: 750 ] للرجل إذا جمع الماء في الحوض: "قرى فلان الماء في الحوض فهو يقريه قرى" ، والحوض نفسه المقرى، ويقال للقرد إذا جمع الطعام في شدقه: " قد انقرى قريا، ومنه قول الراجز:

              يا عجبا من صلتان يقري     وكان لا يفري فأمسى يحري

              والقري: مجرى الماء إلى الرياض، والمقرى، أيضا إناء يقرى فيه الضيف، يقال منه: قريت الضيف فأنا أقريه قرى - مقصور - وأما إذا همز، فإنه يصير بمعنى غير هذا، وذلك إذا قيل: ما قرأت هذه الناقة سلا قط، يعني به: إذا لم يشتمل رحمها على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم:

              تريك إذا دخلت على خلاء     وقد أمنت عيون الكاشحينا
              ذراعي عيطل أدماء بكر     هجان اللون، لم تقرأ جنينا



              والقرو بغير همز، غير ذلك كله، وهو أصل النخلة ينقر، ثم ينتبذ فيه، ومنه الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النقير، وأصله منقور صرف إلى نقير، وهو أصل النخلة المنقور. والقرا بفتح القاف - مقصور - الظهر، ومنه قول الطرماح بن حكيم:

              [ ص: 751 ]

              كصياح نوتي يظل على قرا     قيدوم قرواء السراة يندد

              يقال منه: ناقة قرواء، إذا كانت طويلة الظهر، ومنه قول رؤبة بن العجاج في صفة ناقة:

              تنشطته كل مغلاة الوهق     مضبورة قرواء هرجاب فنق



              وأما قول جد سلمان بن عتاب: سألت أبا هريرة ، فقلت: إنا نرى الحوض يكون فيه السؤرة من الماء - يعني بالسؤرة البقية منه - وسؤرة كل شيء بقيته، ومنه قول سؤر الذئب:

              ناهزت سؤر الذئب عنه الذيبا



              [ ص: 752 ] يقال للرجل إذا شرب فأبقى في الإناء منه بقية: "أسأر يسئر إسآرا" ومنه قول الأعشى:

              بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها     بعد ائتلاف، وخير الود ما نفعا

              وهو رجل سآر إذا كان من شأنه الإفضال في الإناء إذا شرب، ورجل سوار، إذا كان وثابا، من سار فهو يسور سورا، ورجل سيار، إذا كان ذا منة على السير، من سار فهو يسير سيرا

              وأما قول أبي هريرة: "فإذا كان الماء أربعين غربا لم ينجسه شيء" ، فإن الغرب، هو الدلو العظيمة، يتخذ من مسك ثور ينوء بها البعير، يجمع غروبا، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: .

              [ ص: 753 ]

              كأن عيني في غربي مقتلة     من النواضح تسقي جنة سحقا



              وللغرب أيضا وجوه غير ذلك، منها قولهم: في لسان فلان غرب، إذا كانت فيه حدة ويقال لحد كل شيء غربه، كقولهم لحد السيف غربه، ولأطراف الأسنان غروبها، كما قال عنترة:

              إذ تستبيك بذي غروب واضح     عذب مقبله لذيذ المطعم

              ومنها: "فرس غرب" ، إذا كان كثير العدو، ومنها قولهم: "بعين فلان غرب" ، إذا كانت كثيرة سيلان الدمع لا تنقطع غروبها. وأما "الغرب" ، بتحريك الغين والراء، فمعنى غير ذلك كله، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بين البئر والحوض، "والغرب" أيضا: الفضة، في قول معمر بن المثنى ، ومنه قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:

              باكرتها الأغراب في سنة النو     م فتجري خلال شوك السيال

              "والغرب" أيضا، نوع من الشجر، ومنه أيضا قوله: .

              [ ص: 754 ]

              إذا انكب أزهر بين السقاة     تراموا به غربا أو نضارا



              وأما قول أبي هريرة إذ سئل عن الكلاب ترد الحياض: إذا وردن الحكر الصغيرة فلا تطعمه "، فإنه يعني بالحكر الصغيرة، محبسا للماء صغيرا كالحوض الصغير، ومنه قول الراجز:

              يا ليتها قد لبست وصواصا     وعلقت حاجبها تنماصا
              حتى تجيء عصبة حراصا     فيجدوني حكرا حياصا

              معنى قوله: "فيجدوني حكرا" ، حابسا لها عن التزويج، ومنه احتكار الطعام، وهو حبسه على المشتري بترك بيعه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون" ، يعني بالمحتكر: المحتبس .

              [ ص: 755 ] وأما قول عطاء: وهذه الإضاء تلغ فيها الحمر، والكلاب "، يعني بالإضاء، جمع أضاة، وهو الغدير من الماء، ومنه قول الأعشى:

              وكل دلاص كالأضاة حصينة     ترى فضلها عن ربها يتذبذب

              وأما قول الشعبي: دفع عمر إلى ضحضاح من ماء السماء، فإنه يعني بالضحضاح، الماء الرقيق القليل الواقف، ومنه الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار، يغلي منهما دماغه" يعني بقوله: "في ضحضاح من نار"   : في نار رقيقة قليلة

              وأما قول عكرمة: إذا كان الماء ذنوبا أو ذنوبين لم ينجسه شيء "، فإن الذنوب: الدلو العظيمة، ومنه قول الله - تبارك وتعالى -: فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون .

              [ ص: 756 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية