( القول في البيان عما في هذا الخبر من الفقه )
والذي فيه من ذلك: إذا لم يمكن جميع من ورد عليه أخذ حاجته منه في حال واحدة، حتى يستغني عنه السابق إليه، فإذا هو استغنى عنه بأخذ حاجته منه، لم يكن له منع غيره منه; وذلك أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قضى البيان من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بأن كل ما أحدث الله - تبارك وتعالى - خلقه مما لا مالك له من: غيث [ ص: 431 ] أنزله من السماء أو ماء فجره من حجر أو جبل كذلك أو أرض لا مالك له سوى الله - عز وجل - فأحق الناس به السابق إليه دون غيره للزبير في شراج الحرة، أن له أن يحبس الماء حتى تروى أرضه بقوله له: يا زبير احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدر، وإنما يرى أنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حد للزبير ما حد له من قدر حبس ذلك; لأنه إذا جلس قدر ذلك رويت أرضه ثم أمره بإرسال الماء بعد ذلك إلى جاره، فكذلك الواجب من العمل على كل وارد ورد على ماء أو معدن أو ذهب أو فضة أو قار أو نفط أو ملح أو غير ذلك من المعادن الطاهرة المعمولة التي لا مالك لها غير الله - تعالى ذكره - الذي خلقها فسبق إليها غيره، فأراد العمل فيها وأخذ حاجته منها، ولم يكن ممكنا العمل فيها إلا بعض وارد بها دون الجميع: أن يعمل السابق فيها حتى يأخذ حاجته منها، فإذا هو ترك العمل فيها، وأخذ حاجته منها فاستغنى عنها، ألا يمنع غيره العمل فيها، ولكن يخليها ومن أراد العمل فيها، وأخذ حاجته منها، كما أمر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الزبير بإرسال الماء الذي أذن له في حبسه حتى تروى أرضه إذا هو استغنى عنه بري أرضه: إلى أرض جاره ليستقي منها نخله، وتروى أرضه.
فإن قال قائل: وما دليلك على أن الماء الذي قضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بما قضى فيه بين الزبير والأنصاري كان من المياه التي لا مالك لها إلا الله - جل ذكره - دون أن يكون ذلك كان عينا استنبطها الزبير والأنصاري، فكان الزبير أولى بها حتى يروي أرضه، إذ كانت أرضه تلقاها ماء تلك العين، قبل أن تلقى أرض الأنصاري كما قال بعض من أغفل معنى حكم رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في [ ص: 432 ] ذلك بين الزبير والأنصاري، فيكون ذلك حكما من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في كل جماعة بينهم نهر يلقى ماؤه أرض بعضهم قبل أن تلقى غيرها من أرضي شركائه، أن يكون أحق بمائه حتى تروى أرضه، ثم كذلك التي تليها من الأرضين حتى ينتهي ذلك إلى آخرها، فيكون أهل كل أرض هي فوق أخرى ممن له شرك في ذلك النهر أحق بمائه ممن أرضه أسفل منها؟ قيل: دليلنا على أن ذلك الماء كان من عيون السماء، ومن السهول التي لا مالك لها غير محدثها، وأنه لم يكن من عين استنبطها نفر بنفقاتهم، فذلك بينهم على قدر حقوقهم فيه، ليس لأحد منهم منع أحد من شركائه فيه حقه منه في وقت من الأوقات، ولا ساعة من الساعات، ولا له الاستئثار بمائه دون شركائه فيه، ولا دون أحد منهم بغير رضاهم بإجماع من الجميع.
وفي حكم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للزبير بحبس الماء الذي لقي أرضه قبل أرض الأنصاري مع منازعة الأنصاري إياه ذلك ومخاصمته إياه فيه، حتى يبلغ الجدر أو الكعبين: البيان البين أن ذلك كان من مياه السيول والأودية التي لا مالك لها غير الله - تبارك وتعالى - التي تحدث عن العيون التي ينزلها الله - تعالى ذكره - من سمائه أو من دون الثلوج، لا من العيون التي استنبطها أهل الأرضين التي كانت منها شربها; لأن ذلك لو كان من عين استخرجها الزبير والأنصاري أو أرباب الأرضين التي كانت تشرب من ذلك الماء: لم يكن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ليقضي للزبير بحبس حق شريكه فيه لنفسه، ومنع شريكه فيه حقه منه; لأن الله - تعالى ذكره - كان بعثه بالإنصاف في الأخذ للمظلوم من الظالم، هو القائل - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: " لا قدست أمة لا يأخذ ضعيفها من قويها حقه، وهو غير متعتع ".
[ ص: 433 ] وغير جائز أن يضاف إليه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إلا العدل والإنصاف.
ولكن ذلك كان من المياه التي وصفت صفتها، التي السابق إليها يكون أحق بها من المسبوق إليها، حتى يقضي منها حاجته، فإذا خلى عنها أو استغنى: أطلقها لغيره، ولم يكن له منع غيره منها بعد استغنائه عنها.
وقد ورد ببيان صحة ما قلت من أن قضاءه الذي قضى به بين الزبير والأنصاري، كان في مياه السيول: خبر يؤيد ما بينا من الدلالة على صحته، وإن كان في إسناده بعض النظر وذلك ما: