الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              987 - حدثنا ابن المثنى ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، وأبو عامر ، عن هشام ، عن قتادة ، قال: " سألت سعيد بن المسيب: هل خضب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؟ قال: لم يبلغ ذاك   ".

              والذي نقول به في هذه الأخبار التي رويناها، عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - التي في بعضها الأمر بتغيير الشيب، وفي بعضها النهي عن تغييره: أن جميعها صحيح (!) وليس فيه شيء يبطل معنى [ ص: 517 ] غيره، ولكن بعضها عام، وبعضها خاص فقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في خبر الزبير الذي ذكرنا عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وعن من وافقه في روايته عنه، أنه قال: " غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود   ".

              عام المخرج، والمراد منه: الخصوص وإنما معناه: غيروا الشيب الذي هو نظير شيب أبي قحافة ، الذي قد صار رأس من به ذلك ولحيته كالثغامة بياضا.

              فأما من كان أشمط أو كان شعره مخلسا، فهو الذي قال له - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولأمثاله: " لا تغيروا هذه الشيبة   " وقال: " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة، إلا أن ينتفها، أو يخضبها " وهم الذين كره لهم تغيير شيبهم.

              فإن قال قائل: وما الدليل على أن ذلك معناه؟ قيل له: الدليل على ذلك ما قد بينا في غير موضع من كتبنا: أنه غير جائز أن يكون من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قولان متضادان، وأمران في شيء واحد، في حالة واحدة متنافيان وأن يأمر بأمرين، وفي وقتين مختلفين، كل واحد منهما مخالف صاحبه، إلا على وجه نسخ أحدهما صاحبه وإذ كان غير جائز أن يكون ذلك إلا كذلك، كان غير جائز أن يكون الناسخ منهما إلا معلوما عند أمته من المنسوخ فإذ كان الأمر كذلك، وكانت الأخبار قد وردت عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بنقل العدول: أنه أمر بتغيير الشيب، وأنه نهى عن تغييره وكان معلوما أن الأمر والنهي غير جائز اجتماعهما في حال واحدة عن شيء واحد، وأن أحدهما لو كان ناسخا صاحبه، كان ذلك مبينا أوقاتهما، ليعلم الذي على الناس من ذلك، فيعملوا به، وينتهوا إليه، علم أن القول في ذلك كالذي قلت، وأن الذين اختاروا تغيير [ ص: 518 ] الشيب فغيروه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إنما غيروا في الحال التي كان فيها شيبهم، وبياض شعورهم كشيب أبي قحافة وشعره، أو في حال كان منهم ذلك قريبا من ذلك وأن الذين اختاروا ترك تغيير شيبهم فلم يغيروه، كان شيبهم مخالفا شيب أبي قحافة وبياض شعر رأسه ولحيته، إما بالاختلاس والإشماط، وإما بغلبة السواد عليه، كالذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في شعره، وأنه مع ظهور الشيب في رأسه وعنفقته ولحيته، لم يغيره لقلته فيها فإذا كان ذلك كذلك، فالذي نختار لمن كان لا شعر في رأسه ولحيته أسود بابيضاض جميعه، أن يغيره بخضاب.  

              ولمن كان في شعر رأسه ولحيته سواد ترك تغييره بشيء من الخضاب،  من غير أن أرى تارك تغييره - وإن كان جميع ما في رأسه ولحيته من الشعر قد ابيض - آثما بترك تغييره إذ كان الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بتغيير ذلك ندبا لا فرضا،  وإرشادا لا إيجابا وكذلك: لا أرى مغير ذلك - وإن كان قليلا ما ابيض منه - حرجا بتغييره; إذ كان النهي عن ذلك، من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان تكريها، لا تحريما; لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وأن النهي من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عن ذلك، لو كان على وجه التحريم أو لو كان الأمر - فيما أمر به من ذلك - كان على وجه الإيجاب، لكان تاركوا التغيير قد أنكروا على المغيرين أو كان المغيرون قد أنكروا على تاركي التغيير.

              ولكن الأمر كان في ذلك كالذي وصفت - إن شاء الله - فلذلك ترك بعضهم النكير على بعض.

              وبنحو الذي قلنا في ذلك، كان الثوري يقول، وإن كان قد خالفنا من ذلك في بعض معانينا الذي قلنا فيه.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية