الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              1017 - حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن شيخ، قال: " كان سهام المسلمين يوم جلولاء ثمانية ألف وثمانية من الدواب، فكان للفارس سهمان، وللراجل سهم: سهم له وسهم لفرسه، لا يزاد على ذلك، ويسهم للراجل سهم واحد لنفسه   ".

              وقال أبو حنيفة ، وزفر ، ومحمد: " يسهم للفارس سهمان ".

              والذي نقول به في ذلك: أن الصحيح من الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في إسهامه الفارس من الغنائم: ما ورد بأنه أسهمه ثلاثة أسهم: سهمين لفرسه، وسهما له.  

              فأما في إسهامه الراجل; فإنه لا اختلاف في أنه لا زيادة له على سهم واحد بين أهل العلم، فيحتاج إلى التشاغل بأمره.

              وأما الرواية عنه: أنه أسهم للفارس سهمين; فإن راويه إن كان عنى أنه قد كان فيما أسهم له من الأسهم الثلاثة: السهمان، فقد أصاب - وإن كان قد قال قولا لبس به على من لا علم له بمعناه في ذلك معنى حكم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيه - [ ص: 539 ] وإن كان عنى أنه لم يزد الفارس على سهمين فذلك - والله أعلم - غلط - عندي - من بعض رواته.

              وإنما قلنا: إنه غلط من بعض رواته; لأن الرواية بذلك متصلة السند عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من وجهين: أحدهما: من رواية عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولا يدفع ذو علم بآثار رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من نقلة الأخبار أن عبيد الله بن عمر أثبت وأحفظ لما روى عن نافع ، وغيره من عبد الله بن عمر العمري ، وقد روينا عنه، عن نافع وعن ابن عمر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه أسهم للفارس ثلاثة أسهم.

              ومن المحال أن يكون ابن عمر قال: لم يزد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الفارس من الغنيمة على سهمين.

              ثم يقول: أسهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للفارس ثلاثة أسهم; لأن ذلك إذا قاله قائل لم يخل من أحد وجهين: إما أن يكون متعمدا قيله، وهو يعلم وجه فساده، فيكون كاذبا في قيله، والكذب عن ابن عمر - رحمه الله - منفي غير موهوم منه تعمده أو يكون ساهيا ناسيا أحد قوليه، فيكون القولان جميعا مرفوضين، إذا لم يعلم الخطأ منهما من الصواب!

              والآخر منهما: حديث مجمع بن جارية ، عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

              والقول فيه - أيضا - نظير القول في خبر ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على نحو ما بينا، وأحسن حالات عبد الله بن عمر العمري فيما روى في ذلك عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن نجعله لأخيه عبيد الله بن عمر نظيرا وإن كان ذلك عند أهل المعرفة بالآثار ظلما! وأن نجعل محمد بن عيسى ، فيما روى عن مجمع بن يعقوب في ذلك ليونس بن محمد كفؤا، فنسقط القول [ ص: 540 ] والعمل برواية كل واحد منهما في ذلك; إذ كانا قد تعادلا في القناعة، والرضا، والعدالة: عند من جعل خبر عبد الله بن عمر ، وخبر محمد بن عيسى هما الحجة في ألا يزاد الفارس على سهمين من جهة الأثر، إذ كنا لا نعلم المحق منهما فيما روى، من المبطل، ونلتمس حجة يجب علينا بها العمل في سهم الفارس وفرسه: إما من جهة الأثر، وإما من جهة النظر فأما الذين جعلوا سهم الفارس وفرسه سهمين، فلم يزيدوهما عليهما; فإنهم إذ عدموا بما قالوا - مما ذكرنا عنهم - حجة تؤيد قولهم من جهة الأثر، إذ صار ما أدلوا به من الحجة لقولهم في ذلك من جهة الأثر إلى ما بينا: لجؤوا إلى أن زعموا أنهم قالوا الذي قالوه من ذلك من جهة النظر وقالوا: النظر الذي أدانا إلى قول ذلك: هو أنه لا خلاف بين جميع الأمة أن الفارس إنما له من الغنيمة مثل ما للراجل، وهو سهم واحد; إذ كانا متعادلين في المعنى الذي به استحق كل واحد منهما ما استحق من الغنيمة.

              وإنما الاختلاف بينهما في سهم الفرس، فمن قائل: له سهمان.

              ومن قائل: له سهم واحد
               قالوا: فلم يجز لنا أن نزيد على سهم رجل مؤمن من الغنيمة، إذ لم يكن أكثر غنى عن المسلمين، وهو بهيمة من رجل مجرب منهم قالوا: ولو جاز لنا أن نزيده على السهم الواحد، فنفضل بعض ما كان له نفع وغنى عن المسلمين في معركة الحرب: كان أولى ذلك بالزيادة الرجل الشجاع المعروف بالبسالة، الذي يقوم مشهده في الحرب مشهد خلق كثير من الضعفاء والجبناء، ولكن الله - تعالى ذكره - سوى في قسمة ما أفاء عليهم بالإيجاف بين أشجعهم، وأبسلهم، وأضعفهم، وأخورهم، وأجبنهم، فلم نفضل أحدا منهم على أحد فيه.

              قالوا: فإذ كان حكم الله - تعالى ذكره - في عباده المؤمنين ذلك، [ ص: 541 ] فغير جائز تفضيل بهيمة على من ذكرنا من فرسان المؤمنين، وذوي شجاعتهم وبسالتهم في السهام ويقال لقائلي ذلك: أرأيتم تسويتكم بين الرجل الشجاع الباسل المجرب من أهل الإيمان، وبين بهيمة من البهائم التي إنما هي أداة له في حربه، كبعض أدواته من رمحه، وسيفه، وترسه، وغير ذلك من أدواته، وآلاته التي يستعين بها على عدوه: في السهام أمن جهة الأثر؟ أم من جهة النظر؟ فإن زعموا أنهم فعلوا ذلك من جهة النظر قيل: وأي نظر أداكم إلى ذلك؟ وكيف أوجبتم لفرسه - وهي أداة من أدواته سهما من المغنم، إن لم يكن ذلك من جهة، الأثر، ولم يوجبوا لسيفه، وسنانه، وجنته مثل الذي أوجبتم له، فقد علمتم أن ذلك في بعض الأحوال أغنى عنه من فرسه وهل بينكم وبين من أوجب لسيفه، وترسه من السهام مثل الذي أوجبتم لفرسه - إن كان وجب ذلك - من جهة النظر؟ فإن قالوا: إن ذلك، وإن كان كذلك، فإن الأمة مجمعة على ألا سهم لشيء مما ذكرت في الغنيمة، وأن للفرس سهما; فلذلك فرقنا بين أحكام ذلك!

              قيل: فقد وضح لكم بما ذكرتم: أن الذي جعل للفرس من المغنم، لم يجعل له من وجه النظر، ولا لغنائه عن صاحبه وأن ذلك إنما وجب له بإيجاب الله - تعالى ذكره - على لسان رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

              فهل من أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثابت غير مدخول بما قلتم من أن سهم الفرس في المغنم الذي لا يزاد عليه: سهم واحد دون سهمين؟ فلن يقدر على دعوى ذلك، لأنهم إن ادعوه لم يخف على ذي المعرفة أنهم مبطلون! وإن سألنا منهم سائل، فقال: فما المعنى الذي من أجله أوجبتم - إن لم تكن إلا من الذي قلنا في ذلك كالذي قلنا - للفارس ثلاثة أسهم، أمن جهة قياس؟ [ ص: 542 ] فما الأصل الذي قستم ذلك عليه؟ أم من أثر، فقد علمتم اختلاف الرواة في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في ذلك؟ والرواية إذا اختلفت عنه لم يكن أحد فريقيها أولى بالتصديق من الآخر، إذا تعادلا في القناعة، والرضا، والعدالة؟ قيل: إن فريقي نقلة سيرة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سهام الفارس من المغنم - عندنا - غير متعادلين ولكنا سلمنا ما ادعى من ذلك مخالفونا كراهة منا منازعتهم فيهم، وثقة منا بالفلج عليهم، مع تسليمنا ما سلمنا لهم فإن قال: وما الحجة التي تفلجك عليهم إذا أنت سلمت لهم ما نازعوك فيه من اعتدال حال الفريقين اللذين ذكرت؟ قيل: قد ذكرنا أن اختلاف الرواة عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في ذلك، إنما هو من أحد وجهين: إما من وجه النقل عن نافع.

              وإما من وجه النقل عن مجمع بن يعقوب الأنصاري على ما ذكرنا من إسنادهما ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

              ونحن إذا رفضنا كلتي الروايتين عنهما، فتساوينا وخصومنا القائلون في سهام الفارس - ما عنهم حكينا - ولم نجعل لأحدنا على صاحبه إحدى الروايتين عن نافع، ولا عن مجمع بن يعقوب حجة: انفردنا بالأخبار الأخر التي ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - التي لا مخالف لها ولا مدافع; وذلك كخبر هشام بن عروة ، عن أبيه، عن الزبير ، عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وخبر مالك ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وسائر الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في ذلك التي لا خبر للقائلين في سهام الفارس: أنهما سهمان لا يزاد عليهما، نظير شيء منها; فلما وصفنا من العلة قلنا: للفارس من المغنم - إذا شهد الحرب وقاتل فيها أو حضرها محاربا - ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه.

              [ ص: 543 ] وفي هذا الخبر - أيضا - من الفقه - أعني خبر الزبير عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الدلالة البينة على أن من أوصى بوصية أو وقف وقفا على ذوي قرابته: أن أولاد أخواته وإخوته يستوون فيما يستحقون من تلك الوصية والوقف;  ذلك أن الزبير ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أعطاه أحد السهام الأربعة التي أعطاه إياها بأنه من ذوي القربى، وإنما هو رجل من بني أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيما ذكر عنه جبير بن مطعم - يخص بسهم ذوي القربى قرابته من بني هاشم بن عبد مناف بن قصي.

              وكان يعطي معهم بني المطلب بن عبد مناف بسبب الحلف الذي كان بينهم، وبين بني هاشم.

              ولم يكن يعطي منه بني نوفل بن عبد مناف، ولا بني عبد شمس بن عبد مناف، وهم أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من ولد عبد العزى; وذلك أنه يجمع هاشما، ومطلبا، ونوفلا، وعبد شمس دون قصي: أب، وهو عبد مناف بن قصي ، ولكنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أعطاه ذلك بأنه من ولد عمته صفية ابنة عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

              ففي ذلك: دليل على صحة ما قلت من استواء حق ولد الإخوة والأخوات فيما أوصى به الموصي أو جعله المتصدق الصدقة المؤبدة في صدقته لذوي قرابته، وأن ولد إخوانه، وولد عماته - وإن كانوا ينتسبون بآبائهم إلى غير ذوي قرابته - يستحقون مما أوصى أو تصدق الصدقة المؤبدة على ذوي قرابته نظير ما يستحقه ولد إخوته وبنوا أعمامه.  

              وفيه أيضا - تصحيح الخبر الآخر الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - [ ص: 544 ] أنه قال: " ابن أخت القوم منهم "; لأن الزبير من ولد صفية ابنة عبد المطلب.

              فجعله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيما قسم له من خمس: خمس الغنيمة، وهو سهم ذي القربى من بني هاشم; لأنه ابن أختهم، وهو رجل من ولد أسد بن عبد العز ى

              التالي السابق


              الخدمات العلمية