وأما الذين أنكروا رواية جميع أصناف الشعر، وقيل جميع أنواعه اعتلالا منهم بما ذكرنا من الأخبار المروية في ذلك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأخبار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد، غير جائز الاحتجاج بمثلها في الدين.
والصحيح من الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك، ما قدمنا ذكره من أمر حسان وغيره من شعراء الصحابة بهجاء المشركين، وإعلامه إياهم أن لهم على ذلك الثواب الجزيل، واستنشاده إياهم، وتمثله أحيانا من ذلك بالبيت بعد البيت.
والشيء بعد الشيء، وإخباره أصحابه أن هجاء من هجا من شعراء أصحابه المشركين أشد على المشركين من نضحهم إياهم بالنبل.
ولقد ذكر أن قبيلة من قبائل العرب أسلموا بوعيد إياهم في شعره، ولا شك أن ما كانت نكايته في العدو النكاية التي تدعو أمة منهم إلى الإذعان بالطاعة، والدخول في الدين، والمسالمة، أبلغ في المكيدة من نضح النبل والضراب بالسيف، وأن ما كان مبلغه في نكاية العدو هذا المبلغ لا ينبغي أن يغفل عن استعماله. كعب بن مالك
وإذا كان لا ينبغي أن يغفل عن استعماله لم يجز أن يقال: لا يحل قيله وروايته، بل هو إلى وجوب قيله وروايته في بعض الأحوال أقرب منه إلى لزوم تركه وترك روايته.
[ ص: 656 ] ويقال لجميع من أنكر قيل الشعر وروايته: أرأيت قول الله جل ثناؤه: والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا مختلف فيه حكم المستثنى والمستثنى منهم أم متفق؟ فإن زعموا أنه متفق خالفوا في ذلك نص حكم الله تعالى في كتابه؛ لأن الله جل ثناؤه خالف بين أحكامهم، فأخرج المستثنى من حكم الذين قبلهم.
وإن قالوا: بل هو مختلف قيل لهم: فقد وضح إذن أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، وأنهم هم الذين صفتهم خلاف هذه الصفة، فأما من آمن منهم وعمل الصالحات وذكر الله كثيرا فغير مذمومين، بل هم محمودون